داود أمين

مرة اخرى في مهرجان اللومانتيه في باريس، ولا اعرف هل هي المرة العشرون أو أكثر، فالمشاركة في مثل هذا المهرجان هي إدمان لمثلي، وحتماُ لكثيرين من الرفيقات والرفاق الذين يشبهوني، في إستشعار أهمية المهرجان ومتعته، ففي خيمة صحيفة الحزب (طريق الشعب) يفد الرفاق (والرفيقات أيضاُ) من كافة دول أوربا، وأحيانا من أمريكا وكندا وأستراليا، وينغمر الجميع في عمل تطوعي متنوع، يبدأ من نصب المسرح وتنظيم الإضاءة ولصق الصور والشعارات وتعليق اللوحات على جوانب الخيمة، ولا ينتهي بوضع مناقل الشوي للكباب والدجاج وتخدير الشاي العراقي، وتحضير طاوة قلي الفلافل.

أما خلف الخيمة فهناك حقاً خلية نحل دائبة الحركة، فثرامة البصل والطماطة والفلفل والخس ينحرون الرؤوس بحمية ومثابرة، تجعل الدمع يتطاير من عيون البعض! أما محترفي خبطة الفلافل، فيندهش الغشيم مثلي أمام دقتهم، في ضبط مقادير كل هذه المواد الداخلة في الخبطة! صداري النايلون البيضاء تمنح العاملات والعاملين هنا سمة التوحد المعززة دائما بإبتسامة عذبة من قبل الجميع.

اليوم الأول قبل بدء المهرجان، أعني الخميس، هو يوم اللقاء العراقي، فالأحضان في هذا اليوم، دافئة بالود، ومهيئة للقاءات الحميمة، بعد سنة وربما أكثرمن الغياب. ولأني أرتبط بالأغلبية بحكم إدماني على حضور المهرجان منذ اكثر من عقدين، فقد سخنت أحضاني من كثرة الضم، وإنهرست شفاهي وخدودي من البوس المتبادل!

عشاء اليوم الأول كان بائساً ومفاجئاً لنا، نحن الذين نعرف بالخبرة المتراكمة من سنين، والمتعودون على طبخ الرفيقة (أم فرح)، ماذا يعني عشاء هذه الليلة، فقد هيأت معدتي لأكلة القيمة النجفية، خصوصاً ونحن هذه المرة (مدومنين من الراسين) يعني هم عاشور وهم سائرون! ولكن المفاجأة كانت في تمن لا لون ولا طعم ولا رائحة له، أما المرق (وما أدراك ما المرق) ففيه كمية بصل تكفي (للسير معاً لبناء الإشتراكية)! والغريب إن المادة الرئيسية (أعني اللحم) قد فر بلباقة ونعومة من طبخة العشاء، فرار محافظ البصرة السابق!

المادة التي قدمها الرفيق الشاب علي صاحب، عضو اللجنة المركزية للحزب في هذه الليلة، كسرت إلى حد ما بؤس عشاء الليلة، فهدوء الرفيق ووعيه وإبتسامته، ومضمون ما طرحه اسعداني شخصياً، بإعتباره إبن عائلة تخصني، ولي معرفة به منذ طفولته.

ملامح تجهيزات الغد، اعني اليوم الأول للمهرجان أصبحت (بالجيب) تقريباً، فواجهة الخيمة، تزهو بصورتين كبيرتين لرفيقين عزيزين، فقدناهما قبل أشهر، وهما الرفيق الفرنسي باتريك ريبوا، والرفيق العراقي صباح الحويزاوي. كما تزينت جوانب الخيمة بلوحات تشكيلية للفنان عماد عاشور، ومعرض فوتغرافي عن تأريخ مساهمة طريق الشعب في المهرجان، من إعداد الرفيق خالد الصالحي، لذلك تم تنظيم عودتنا في حدود الساعة الحادية عشرليلاً، بسيارات هيأها الحزب (وهي المرة الأولى) فتم نقلنا للفندق الذي يحتشد فيه معظم الرفاق.

صباح الجمعة تجمعنا أمام باب الفندق، وبدأت سيارتان كبيرتان (12 نفر لكل سيارة) بنقلنا لخيمة المهرجان، ولأننا لم نفطر في الفندق، فقد بادرت الرفيقات الرائعات، لقلي البيض داخل قعر قدر كبير، ولعدة مرات ليكفي الجائعين، مع خبز فرنسي لذيذ وجبن ولحم مقدد، وشاي عراقي ساخن (وبلاش!).

الحركة داخل الخيمة وأمامها بدأت تنشط، فطوابير المشترين إصطفت أمام مناقل الكباب وأسياخ الدجاج ولفات الفلافل وإستكانات الشاي، والرفيق علاء محاسب الخيمة يقطع التذاكر للمشترين، وينمي مالية الحزب مع كل تذكرة تُقطع! بعد الثانية عشر ظهراً، بدأت ملامح البرنامج الفني لخيمة طريق الشعب تتضح، فالمطرب محمد البيك (القادم من هولندا) وبمصاحبة ستار الساعدي ومهدي الشريفي، وهما عازفان محترفان على الناي والطبلة والبيانو، قدم البيك وصلة جميلة من الأغاني العراقية الدارجة، دفعت بالبعض للنزول لساحة الرقص.

البرنامج السياسي لخيمتنا بدأ مع ظهر هذا اليوم، حيث عقدت ندوة سياسية هامة، ضمت خمس شخصيات، تنتمي لأحزاب اليسار العربي، في المغرب ولبنان وفلسطين والعراق، وتحت عنوان هام هو(دور اليسار في مناهضة المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا). بعدها قدم القاضي هادي عزيز القادم من الوطن، مداخلة مختصرة عن الدولة المدنية. كما تم تشريفي بتقديم الأديب العزيز ناجح المعموري، رئيس أتحاد الأدباء العراقي، في حديث هام وجديد، عن ألأرث الفكري والثقافي للشهيد كامل شياع، وبعد ذلك كان دور فرقة بابل القادمة من الدانمارك، والتي تضم مجموعة رائعة من الشابات والشباب المغنين والعازفين، بقيادة الفنان سعد الأعظمي، فألهبت الفرقة بما قدمته من أغاني منوعة، حماس المحتشدين داخل الخيمة وخارجها، فنزلوا للرقص، والحقيقة إن بعضهم (ذب لحم!) وهو يردح مع سلسلة أغاني متواصلة،(وحدة أحلى من الثانية!).

العزيز ذياب مهدي آل غلام، القادم من إستراليا للمساهمة في المهرجان، قدمه الرفيق أبو فرح، ليتحدث عن كتابه التراثي الهام (مقهى ننه) في النجف، وكان العزيز ذياب أثناء التقديم يرتدي ملابس عربية، من دشداشة وعباءة وعقال ويشماغ، كما إنه لم يبخل علينا(بجم ردحة نجفية!) مع الراقصين، قبل وبعد تقديم الكتاب.

يوم السبت، الذي يعتبر أهم أيام المهرجان وأشدها إزدحاماً، تضاعفت خلاله أطوال طوابير المشترين، من بركات خيمتنا، وكانت مالية الحزب تنمو هذه المرة بوتائر متسارعة، وكان العاملون خلف الخيمة يواصلون العمل المضني والمحبب لهم، ويجهزون الواقفين على المناقل ومواقع البيع، بالزلاطات وأكياس الخبز وبكل ما يحتاجونه لتمشية العمل.

المسيرة التضامنية التي إعتادت رابطة المرأة العراقية على تنظيمها كل عام، والتي تطوف خلالها في شوارع المهرجان، هذه المسيرة، بدأت عصر هذا اليوم، فعشرات الرفيقات والرفاق الذين إشتركوا فيها، كانوا يحملون الأعلام والشعارات باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، مع صدح حناجرهم بالأناشيد والهتافات والشعارات، التي تدعو لعراق ديمقراطي خالي من العنف والإرهاب والفساد.

الأديب الغالي ناجح المعموري، عاد مجدداً وبتقديم الرفيق رشاد الشلاه، ليقدم صورة واقعية صادقة، عن واقع الثقافة في العراق، وكانت الآراء الجريئة والهامة التي طرحها المعموري، مثار إستحسان وتأييد الحاضرين.

كما قدم المعموري بعد ذلك، صديقه الشاعر الحلي الجميل عادل  الياسري، مشيراً لملامح ومزايا قصيدته، ثم داعياً إياه لتقديم نماذج من إبداعه.

وفي هذا اليوم توالى تقديم فرقة بابل لأغانيها العذبة، وكذلك الفنان محمد البيك، وإشتدت مساهمة الراقصات والراقصين ومن مختلف الجنسيات، وإرتجت جوانب خيمتنا بالفرح الذي صنعناه ونصنعه كل عام، كما قدمت الفرقة الفلسطينية (وقد إعتادت أن تفعل ذلك في خيمتنا كل عام) دبكة فلكلورية جميلة،وأخيراً تم تكريم حوالي 60 رفيقاً(كنت من ضمنهم) من المساهمين الأساسيين، في عمل ونشاطات الخيمة، خلال الخمسين سنة الماضية.

ويمكن تلخيص ابرز الملاحظات على مهرجان هذا العام في النقاط التالية:

1 - كانت مساهمة الرفيقات واسعة وأساسية ومتميزة، ويمكن ان أشير لبعض الأسماء الهامة في عمل الخيمة وهن الرفيقات رفاه وبشرى وأم فرح وساجدة وفوزية وسعاد وسلام ونضال وإختها اسيل، ودجلة وزوجة الرفيق مازن وإبنتها، وزوجة الرفيق فؤاد الصفار ورابحة ومجموعة الأخوات المندائيات.

2 - تميز هذا العام بنسبة شباب كبيرة نسبياً، للعمل والنشاط داخل الخيمة، ومن الجنسين، وهو مظهر هام وأساسي، لإستمرار عمل الخيمة للمستقبل.

3 - كما أن (شيوخ!) الخيمة الرائعين مستمرون منذ سنين طويلة في العمل والعطاء وبينهم، أبو فرح وأبو أسامة ووداد وعدنان وخالد وعلاء ومحمد الكيم وأبو أكرم، وابو سلام التميمي، وسعد وأبو صارم وأمير العضب، ورفاق هولندا الرائعين والذين في كل مرة لا احفظ أسمائهم! وناظم ومجموعته الرائعة، وماجد فيادي ومجموعة المانيا، ورفاق النمسا الطيبون ومجموعة السويد.

4- اللقاء السياسي والفكري العربي الموسع، الذي جرى داخل خيمتنا لخمسة أحزاب شيوعية ويسارية عربية، والمضمون الذي ناقشه، أعتبره خطوة جديدة وهامة، في إعادة الثقة بأحزابنا اليسارية العربية، وبأهمية وحدتها.