"أصدقائي من تبقى منكم يكفي لكي أحيا سنة"*

 

اتلفت حولي، في يوم الشهيد من كل عام، بحثاً عمن بقي من صحبي .. أتذكر الارض ساحة من دم، تغطيها حمائم مذبوحة في غبش الفجر، ويمشي عليها البغاة بطراً .. أرى السماء مزهوة بصحبي الراحلين، يومضون نجوما من عشق لا ينضب، فيما الناس تنشد لهم فرحة، رغم وجع الأضلاع الممزقة، التي حولها الفاشيون (بإختلاف لغاتهم وسحنهم وازيائهم) سلالماً نحو حضيض إمبراطورياتهم المتعفنة.

مزيج من الحزن والحيرة يخنقني .. أتساءل عن معنى الشهادة وعن السر المقدس في الشهيد .. كيف له أن يوقد سنين عمره شموعاً تضيء الدرب لعاشقين لم يعرفهما.. كيف له أن يحيل الحنين المشتعل في عروقه تعويذة لرافدين لم يرويا ظمأه .. لشجر لم يذق من ثماره .. كيف له أن يقدم قلبه لعبة ليتامى تسربلت طفولتهم بجور البلاد وأوحالها .. أن يقدم في المساءات الموحشة، بعضاً من جسده خبزاً لصغار عامل إنهكه نهار البطالة أو فلاح أتعبه سبخ الظلم.. كيف له أن يضمد جراح الناس بقطع مطّهرة من روحه .. أن يتوحد في نوره فيبصر في كل الخسارات سماءً من صبوات وأفقا من يقين ..

أستعرض الأسماء .. فتأتي هدأة اليقين لتملأ الروح سلاما والرؤية إتضاحا .. فقد إجترح أولئك الفتية كل هذه المعجزات مذ تعلموا أن ثنائية الحياة والموت إنما ترتكز على الوفاء، نبراسا، إن أضأته عشت وخلدت وإن أظلمته مت وفنيت. بهذه المعرفة أدركت كيف ضحى كل هؤلاء الشهداء بحياتهم، كيف صمدوا لسياط البغاة، كيف هزأوا بوحشة الزنانين وهزموا كل المقاصل، من أجل أن يصونوا سري وسر رفاقي، أنا الذي لم ألتق أغلبهم يوما ولم يلتقوني!

إنه الوفاء .. ذلك النبع الذي يتدفق منه دوماً زلال التضامن، فيروي ضمائر الشيوعيين ويترسخ فيها جيلا بعد جيل، ويتجلى في الصميم من صفاتهم والجوهري من خلقهم، ففي الشهادة إشراقة ترابط جدلي بين الوفاء الشيوعي والتضامن الرفاقي، تجعل من كل منهما شرطاً لتحقق الأخر.

في يوم الشهيد من كل عام، ما أحوجنا لنذكي جذوة الوفاء في أرواحنا، لأولئك الذين كانوا لنا أوفياء دون حتى أن يعرفونا، وأن نبقي التضامن الرفاقي فيما بيننا راسخاً في الضمير، وأن نبقي الحزب في القلوب شمعة وفاء للشهداء، منيرة دوماً .. وكل عام وحزب الشهداء بخير.

* من قصيدة للشاعر محمود درويش

عرض مقالات: