في اغلب الاحيان، ان لم يكن في جميعها، تكون السخرية ذات الطابع السياسي، مؤشرا لا يقبل الدحض على تردي الاوضاع في البلد المعني، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. الخ. فكيف الحال اذا اجتمعت كلها في سلة واحدة، كما يحصل الآن في عراقنا المنكوب، وخصوصا في البصرة رئة العراق وشريانه الرئيس.

  ما يجري هناك وفي بقية المدن العراقية، لا يكاد ينتمي الى الواقع، بل هو اقرب الى الخيال، فالكوارث ليست فرادى بدءاً من غياب الخدمات الاكثر ضرورة كالماء والكهرباء، وانعدام فرص العمل امام الخريجين وغيرهم، وصولا الى التلوث البيئي والمائي، الذي ادى الى تسمم ما يقارب الثمانية عشر الف بصري، دون ان يرف جفن لوزيرة الصحة التي صرحت بـ "ثقة عالية" ان الوضع طبيعي ومسيطر عليه، نافية وجود ازمة يدعيها البعض للتغطية على "انجازات" الوزارة! كما لم يرف جفن المسؤولين الآخرين المحليين والاتحاديين سوى التصريحات الاعلامية والوعود الفاقدة للصلاحية منذ سنوات.

   ولكي تصل المهزلة الى ذروتها، اصدرت وزارة التربية بياناً تشكر فيه رئيس الوزراء لانه اول المتبرعين في حملتها (ما تعطش البصرة) وتدعو جميع الوزارات والهيئات وقادة الرأي والمنظمات الدولية والمحلية، وكافة المواطنين للمشاركة في الحملة الاغاثية لسكان البصرة. اذن الحل يكمن في عرف الوزارة بتبرع المحسنين لأهالي البصرة ببعض المبالغ او بقناني المياه.

  ربما تنقص هذا البيان جملة يفترض ان تلحق بآخره، هي (ولكم الاجر والثواب) ليكتمل الحل العبقري الذي يلجأ اليه المتنفذون، كلما ضاقت بهم السبل، واعيتهم الحيل المشهود لهم بابتكارها، منذ أراحوا اجسادهم على كراسي المسؤولية دون وجه حق او كفاءة.

  ان الاجراءات والمعالجات التي اتخذتها الحكومتان المحلية والمركزية، لا يمكن وصفها الا بالترقيعية، وكل طرف يلوم الآخر، في مسعى للتهرب من المسؤولية التي يتحملها الطرفان، شرعا وقانوناً. فالدولة هي المسؤولة عن توفير الخدمات ورفع المعاناة عن كاهل مواطنيها، والعمل على تقدم البلد وازدهاره وبالتالي تحقيق العيش الكريم لكل ابناء الشعب العراقي، لا سيما وان العراق واحد من اغنى تسعة بلدان في العالم.

  والأنكى ان السلطات المعنية لم تكتف بالتنصل عن مسؤولياتها وتبديد الثروات الهائلة التي حصلت عليها طيلة السنوات الماضية والآن ايضاً، ولا بتبادل الاتهامات والشتائم فيما بينها، في حين اتفقت على شيء واحد، هو قمع المتظاهرين الذين ضاقت بهم الدنيا وتلاشى صبرهم في سراب الوعود الكاذبة، فخرجوا الى الشوارع مطالبين بحقوقهم المسلوبة وكرامتهم المهدورة.

   وبدلا من الاستجابة لمطالبهم العادلة، وتحقيق ما يخفف من تذمرهم وغضبهم، تعاملوا معهم بقسوة مفرطة ووحشية، كما لو انهم يريدون بذلك إثبات انهم الامناء على نهج من سبقهم في القمع والعسف.

  في لقطة مترعة بالذكاء وبالسخرية المُرة، قام الشباب البصري بتغطية تمثال السياب بالملح، واستبدلوا ما خُط تحته "انشودة المطر" بـ "انشودة الملح" تعبيرا عن ملوحة شط العرب وتلوث مياهه التي يساهم فيها الجار الشرقي بفعالية.

  سيواصل الشعب نضاله الجسور وحراكه الجماهيري، للحصول على حقوقه، والتمتع بخيرات بلده، وستكون الخطوة الاولى تشكيل حكومة تحتقر المحاصصة والطائفية السياسية، وتكافح الفساد بصدق، وتبني دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

عرض مقالات: