في الأزمان الغابرة، كانت المدن تحيط نفسها بأسوار عالية، وبعضها بأكثر من سور لحماية نفسها من الغزاة والطامعين في ثرواتها. فهي إذن مبررة بل ضرورة اقتضتها طبيعة المرحلة التاريخية، والصراعات التي كانت سائدة فيها.
في ايرلندا الشمالية قبل أكثر من عقد ونصف، وأثناء الصراع الدامي، بين الحكومة الموالية لبريطانيا والجيش الجمهوري الايرلندي، قسمت العاصمة "بلفاست" إلى ثمان وعشرين منطقة، وعزلت عن بعضها بجدران من الكونكريت، وقد استمد العراق منها هذه التجربة، بعد أن زار وفد من مجلس الحكم ايرلندا آنذاك واطلع عليها، ولهذا باشرت الجهات المعنية فوراً، بتقطيع أوصال بغداد والمدن العراقية الأخرى، بصبات الكونكريت التي نشاهدها في كل مكان، بهدف منع الارهابيين من الدخول إليها، كما لو أن هؤلاء الارهابين هم من خارجها فقط ولا توجد خلايا نائمة في داخلها وبين سكانها!
وكانت الحصيلة متواضعة إلى ابعد الحدود، بل إن هذا التقطيع والسيطرات الكثيرة جداً والمنتشرة في كل مكان كانت نتائجها سلبية أكثر مما هي ايجابية، باعتراف العديد من المسؤولين عنها.
لم يكتف المتنفذون، مدنيون وعسكريون، بهذه الإجراءات المقيدة لحرية المواطن في التنقل والسكن، وتكريس الفرقة بين أبناء المدينة الواحدة، وإنما لجأوا إلى أسلوب آخر، هو بناء الأسوار حول المدن، وتحديد الدخول إليها، وفي بعض الأحيان لاتجد أمامك سوراً لكنهم يطالبونك بكفيل، كما هو الحال في الناصرية وغيرها.
وقد اشتد هذا الميل، وتحول إلى هوس في السنوات القليلة الماضية، وآخرها السور العتيد الذي يبنى الآن حول العاصمة بغداد، وتتخلله ثمانية أبواب، يتم الدخول والخروج منها.
في أثناء التفجيرات اليومية وتصاعد الهجمات الإرهابية، سواء من القاعدة أو داعش، أو عصابات الجريمة المنظمة، كان المسؤولون الامنيون والسياسيون، يؤكدون في ذلك الوقت على إن اغلبها يقوم بها مجرمون من داخل بغداد، فما الداعي إذن لإنشاء هذا السور الطويل والمليارات التي ستصرف لبنائه لاسيما وان الأعمال الإرهابية اقل بكثير من السابق؟
سأل احد السياسيين، قائداً عسكرياً لأحد الجيوش، ماهو امنع الحصون التي تواجهونها أثناء الحروب، أجاب بلا تردد، انه حصن الوحدة الوطنية، فعندما يكون سكان المدينة أو البلد موحدين، يصعب اقتحامه واحياناً يستحيل!
إن الثقة بين المواطن وحكومته، بالإضافة إلى المهنية والجهد الاستخباري الناجح هي الكفيلة بحماية بغداد من أي وغد، أو متآمر، آو طامع في السلطة، وما أكثرهم خاصة من المعادين للعملية السياسية، الساعين إلى استبدالها بدكتاتورية جديدة!.
وهذه الثقة لن تتحقق، على ارض الواقع مالم تقدم الحكومة انجازات يعتد بها الشعب، كتوفير الخدمات، من الماء والكهرباء والصحة والتعليم والسكن، ومكافحة سرطان الفساد الذي ينخر الدولة والمجتمع، والابتعاد عن المحاصصة والطائفية السياسية، سبب الخراب الأرأس في عراقنا الجميل.

عرض مقالات: