ربما يعيب البعض على الشعب العراقي هذه الأيام انه لا يتحرك بالمستوى المأمول منه، وان اليأس والإحباط هما الخيمة التي يستظل بها، ناسياً أن غياب الديمقراطية غياباً تاماً واستخدام أساليب البطش والإرهاب والقسوة المفرطة طيلة قرون وليست سنوات معدودة، وسياسة التجويع والحروب الداخلية والخارجية، قد أفضت الى هذه الحالة المؤقتة التي سيلفظها العراقيون سريعاً.
ويمكن الاستشهاد بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 التي جاءت تتويجاً لكفاح الشعب المرير في سبيل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، وسلسة إنتفاضاته الباسلة طيلة سنوات الحكم الملكي، الذي يعتقد البعض أنه كان يمتلك أساساً لقيام نظام ديمقراطي، لو قيض له الاستمرار في الحياة، وهو وهم لا يصمد امام حقائق ذلك الزمن.
فالجهل والخرافة كانت بيارقهما ترفرف عالياً في سماء الوطن، في ظل أمّية أبجدية بلغت أكثر من 90 في المائة، وكان الفقر غولاً لا يرتوي من دماء الفلاحين والعمال، والكادحين عموماً، بل كان يلتهم الفئات الوسطى أيضاً وقد بلغ التفاوت الطبقي خاصة في الريف مديات فلكية، ربما لا مثيل لها في كل أنحاء العالم، أما الصناعة والخدمات، فلا أحد يسمع بهما.
وفي حقل السياسة، كانت اليد الطولى للمستعمرين الانكليز، وأتباعهم من سدنة الولاء للأجنبي، وكانوا لا يتورعون عن كتم أنفاس المواطنين، وزجهم في السجون والمعتقلات وتعريضهم للتعذيب والأبعاد وإسقاط الجنسية، بل أن المظاهرات السلمية للطلبة والعمال وغيرهم، كانت تضرب بالرصاص الحي، وسقط من جرائها عشرات الشهداء، ومئات الجرحى لا سيما أيام الوزارات التي ترأسها "نوري سعيد" وعادة ما كان يشكلها عقب فترات محدودة من التنفيس بهدف إحتواء الغضب الجماهيري، والخشية من تحوله الى ثورة عارمة تطيح بالنظام الملكي وأركانه.
وبرغم ذلك كانت إستراتيجية القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية، تتمحور باتجاه تغيير طبيعة النظام بالطرق السلمية، إلا إن ما جرى في تشرين الثاني عام 1956، وخروج العراقيين في مظاهرات صاخبة شملت أغلب المدن العراقية، انتصارا للشعب المصري، ورفضاً وإدانة للعدوان الثلاثيني الذي وقع عليه من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، بسبب تأميم السويس، وقمع السلطات العراقية لهذه التظاهرات بأساليب غاية في العنف والشراسة، وسقوط عدد من الشهداء، أدى الى قناعة قوى شعبنا الحية، بأن لا سبيل لإسقاط هذا النظام المتهرئ إلا بالعنف الثوري، وهو ما حصل صبيحة (14) تموز عام 1958، بوحدة وطنية جسدها تلاحم الجيش والشعب التي نحن أحوج ما نكون إليها في الظرف الراهن.
أن كل من يجد الإنصاف سبيلا الى عقله ويتحلى بقدر من الموضوعية سيتوصل دون عناء إلى أن ما حصل في (14) تموز كان ثورة أصيلة، وليس انقلابا كما يدعي البعض من المستائين مما آلت إليه الأمور بعد ذلك.
لقد حققت الثورة إنجازات كبيرة ورائعة، سيكتبها التاريخ بمداد من الاعتزاز والاحترام والتبجيل لأنها استطاعت خلال حياتها القصيرة، أن تغير وجه المجتمع العراقي بصورة جذرية سياسياً، واقتصادياً واجتماعيا، وثقافياً، ووضعته على طريق الحداثة والتقدم والسعادة.
بيد أن أعداء الشعب العراقي من الأمريكيين والبريطانيين وشركات النفط الاحتكارية، ودولاً إقليمية وعربية، والقوى الداخلية التي تضررت من الثورة وخاصة الإقطاعيين و الكومبرادور، وأدواتهم المتمثلة بحزب البعث وبعض القوى القومية، شكلوا حلفاً غير مقدس، استطاع في نهاية المطاف اغتيال الثورة في 8 شباط عام 1963، وتدشين الثورة المضادة، التي عصفت بالأخضر واليابس في حياة العراقيين، ومازالت تعصف بها لحد ألان.

عرض مقالات: