حتى يرجع النازح الى مدينته، يجب أن تكون "مدينة" قبل كل شيء. يعني أن تختلف عن مخيم النزوح الذي قضى فيه صيفاً وشتاء، ثم صيفاً ثم شتاء، وربما لن ينتهي هذا التكرار.
أرسلتني الكاميرا الصحفية الى جولة في مستشفيات الموصل بوضعها الحالي. النكبة أكبر من أن توصف، والخراب أوسع من إحاطة الوصف السريع.
يحدّثني أحد المواطنين الذي يراجع مستشفى إبن سينا وهو قادم من الجانب الأيمن باحثاً عن حقنة لعلاج المَغَص الكلوي، معظم أهالي المدينة أصيبوا خلال السنوات الأخيرة بعطبٍ في الكُلى نتيجة شرب الماء الملوّث. يحدثني وهو حائر: "هل يُعقل أن أتوجه الى أربيل من أجل حُقنة مغص كلوي؟".
سيدة أخرى تراجع من أجل الغسل الكلوي لابنتها الشابّة، تقول إن الطابور جعلها تغسل الكلية مرّة في الشهر، وهي بحاجة الى غسل في الأسبوع مرّتين.
مريض آخر أجرى عملية جراحية بما متوفر من أدوات وتعقيم مشكوك فيه، تقوم مجموعة من الشباب بحمله بواسطة(بطّانية) لأن المستشفى لا تتوفر فيها أسرّة للنقل.
هذه الصور اليومية لغياب الخدمات الصحية تجعل التساؤل أكثر الحاحاً: ما قيمة تحرير الأرض اذا لم تبذل الجهود لإعمارها؟.
وهل من الممكن إقناع الأهالي بالعودة الى أحيائهم السكنية المهدّمة، والتي حالها حال القطاع الصحي؟.
كل الأعذار متوفرة بالتأكيد من نقص التمويل، وشحّة الممكنات في شراء الأجهزة، وتعذّر إعادة إعمار المباني والمؤسسات الصحية،الى غيرها من شمّاعات التعليق. لكن هل يمكن أن تسير الحياة في المدينة التي تضم أحياؤها مئات الآلاف من العوائل بهذا الشكل؟
يبدو أنه أمر ممكن، طالما جرى اعتباره، لأسباب سياسية، أمراً ثانوياً وقليل الأهمية. لنتذكر فقط أن الإهمال الحكومي الذي وصل ذروته قبيل سقوط الموصل بأيدي إرهابيي تنظيم "الدولة الإسلامية"، كان سبباً كافياً لزرع بعض التعاطف والحجج الساذجة للقبول بالإرهاب. لنتذكر هذه الخسارة وما جرّت من خسارات أخرى تلتها. فهل ستبقى الدولة على ذات الحال؟ كل شيء يمسّ حياة المواطن تراه ثانوياً،والأولوية دائماً لبقاء "الدولة" نفسها. لكن دولة بلا مواطن ووطن قابل للعيش، لن تعدو كونها مخيماً للنازحين.. لا غير.

عرض مقالات: