تعاني مُدننا من ضغط الهجرة إليها. وتتوافد عليها العائلات بشكل جماعي لأسباب أمنية أو إقتصادية. والسبب الإقتصادي هو الأبرز طبعاً.
في قرية (آل ابراهيم) في محافظة ذي قار، غادرت أكثر من مائة أسرة أراضيها خلال أقل من عام، مع أن الوضع الأمني ربما يكون الأفضل بين محافظات العراق، والسبب الأساس لهذه الهجرة هو جفاف النهر الذي يسقي أراضي تلك القرية والمعروف بـ"شط آل ابراهيم".
قبل سنوات حاولت وزارة الموارد المائية تقليل الضائعات المائية عبر مشروع لتبطين هذا النهر، لكن النتائج كانت عكسية تماماً. والآن يحتاج النهر الى تعميق مجراه ليتمكن من نقل الشيء البسيط من مياه نهر الفرات الى أراضيهم الواقعة الى الشمال الشرقي من الناصرية(على يسار الطريق الذاهب الى الجبايش).
وكنتيجة طبيعية، بدأ المزارعون يسقون من نهر الاصلاح كمصدر بديل، مما أثّر على الحصص المائية. فتحول الأمر الى نزاعات عشائرية، ولم تنته هذه النزاعات عند ترك العوائل لأراضيها ومحاولة إيجاد أماكن بديلة تمكنهم على الأقل من سقاية دوابهم وثروتهم الحيوانية، بعد أن يئسوا من الزراعة.
هذه القصّة وشبيهاتها، تتكرر كل يوم و في كل فصل جفاف منذ عشر سنوات. وتستمر الزراعة بالتراجع. وتستمر المشاكل بالظهور مثل"الكمأ" فقعاً من الأرض. بينما تتقاتل القوى السياسية على العقود ومصادر المال الشحيحة التي تأتي الى المحافظة من الموازنة العامة للدولة.
وصارت عملية تقاسم العقود(أغلبها عقود إنشائية لمشاريع لا ريع لها، ولا تأثير حقيقياً لها على حياة الناس)هي النشاط الوحيد في المحافظة.
أقول: مع وجود هكذا مشاكل في المياه تشكل تهديداً لأصل الإستيطان في أخصب الاراضي بوادي الرافدين، وهي تهدد الوجود الإنساني المستمر منذ 8 آلاف عام: كيف يمكن التعويل على مشاريع بلدية، أو رصف أرصفة أو تبليط شوارع؟
كيف يمكن الحديث عن الحاجة الى مديرية للتربية، أو مبنى مدرسي جديد، أو مستوصف جديد، أو شارع أو قنطرة، بينما يتزعزع أقدم سبب لبقاء الإنسان، وهو الزراعة ؟.
ببساطة، لقد بدأ العراق في التاريخ مع بداية الزراعة. وعندما عرف الانسان الزراعة في بلاد ما بين النهرين بدأ الوجود العراقي، وصارت هناك "هوية رافدينية". قبلها لا يمكن الحديث عن أرض ما بين النهرين ككيان حضاري.
أزمة المياه، هي السكين التي ستقطع آخر أمل في الأمن والاستقرار.
تداركوها قبل أن تفني وجودنا نفسه.

عرض مقالات: