أتساءل دائما: إلى أين ستؤول هذه المقاهي؟ أ إلى السكون أم الصخب؟ أم ستمضي قُدُما نحو زهوها الغارب؟ هذه ثلاثة وجوه، أحاول دائما أن ألمح منها وجها على الأقل، أن أتحسس شكله، وأُغْمر في ملامحه. لكني أدرك أنها تتغير من حال إلى آخر، تشاكس فكرة الثبات دائما. المقهى لن تبقى على حال، هي مِثْلُنا تبقى في تباين دائم. لكنها بيت البيوت، وكلما أَلِجها أطلب منها حق اللجوء، أتنشقُ هواءها الملوث بدخان السكائر الأركيلات ورائحة الشاي "المچبوس"، وأطمرُ ملامحي في ثرثرة الزبائن وطلباتهم. وكلما اعْتذرتْ تخوتها وجدرانها عن قبول طلبي، أضطر إلى أن أهبه لنفسي. أدرك أنها غير معنية بي ولا بحقي هذا، لأنها وحدة مكان لا غير، أحاولُ فيها ترتيب تجوالي لسويعات، قبل أن تُهدَر مجددا بين جدرانها، أو حال مغادرتي أحيانا.
أنا الآن في مقهى الحروب. أطقطقُ أصابعي بدلا من أن أعد عليها القذائف، وأبحث عن أيّ جندي صديق قادم بإجازة قصيرة من سواتر القتال، كي أقاسمه جلسة عابرة، نثمل فيها على اجترار رعبنا من قسوة المعارك هناك، ومطاردة الزنابير هنا، وخرابنا في الحالين.
حقيقة، فرَّتْ مقاهي المدينة، هُجِّرتْ مع زبائنها القدماء. ربما نسيت تخوتها وطاولاتها عادات وطلبات الوجهاء والشخصيات البارزة، بينما جفَّتْ على شروخ حيطانها أصداء أصوات المطربين. لم يعد لمقهى "المُعلَّقَة" أثر إلاّ في أساطير العجائز. اذهب إلى سوق الدجاج بنفسك، انفش ريش دجاجه الواحدة تلوى الأخرى، لن تجد بابا مشرعا تقودكَ عتباتُ سُلّمه الأثير إلى الشناشيل المزدانة بالزخارف والنقوش، أو إلى صالاتها المخصصة لشرب الشاي والقهوة والشربت والنامليت، وأنغام الموسيقى والطرب، ولعب الشطرنج والورق والدومينو والطاولي والمنقلة.
لا رائحة بعد الآن للأفيون، ولا مزايدات تجرى بين التجار، ولا مسابقات "للصكارة". تلاشى ضجيج "المحيبس"، وهرب "حضيري وداخل وصديقة الملاّيه" من دورة اسطوانة الغرامافون. تفرَّق فجأة أصحاب الخيول. حتى أرباب الطرب والخشابة هربوا بطبلاتهم، ورمى "محمد الحلفي" سوطه فانتشرت المشاجرات في محلة "السيمر"، وعلى ضفاف نهرها المكتظ بعشرات "البلم العشاري"... اذهب إلى "شارع الكويت وأم البروم ونهر الخندق والصالحية، وتسكع على ضفاف نهر العشار حتى محلة السعودية ومنطقة العزيزة. ومن الحيّانية والرواسة والومبي ونظران إلى التحسينية والمشراك والطمامه والجاخور والقشلة وماركين"، لن تجد إلاّ أطلال "أم السباع" شاهدة ضريرة بلا حروف على شدَّة القصف، وان ظَلَلْتَ عنيدا فستتندر على هلوستك التخوت، وستسمع جدران المقهى تردد ساخرة: "روح طوش الفحل"!