اليهود شعب الله المختار

لقد اثبتت كل وقائع التاريخ وأحداثه المفصلية المتعلقة بالعنف والحروب ومحاولات التدمير ونشر الخراب على الجميع دون تفريق، إن التعصب القومي، خاصة ذلك المرتبط بالدين، كان واحداً من العوامل التي اججت مثل هذه الصراعات بين الشعوب والأمم وخلقت اجواءً من الكراهية التي دامت لفترات تاريخية طويلة.

ويمكننا الإشارة في هذا الصدد الى التوجه الصهيوني للديانة اليهودية بالشكل الذي حول الدين الى قومية يمارسها المتعصبون من اليهود الأوائل لتتحول بعدئذ الى واقع عملت الصهيونية العالمية على تثبيته كواحد من الأسس الهامة التي اعتمدتها هذه المنظمة العنصرية الإرهابية في نشر اهدافها والدعاية الى افكارها.

ونلاحظ هنا ان الأساس الذي بُنيت عليه نظرية شعب الله المختار والمقصود به اليهود هو اساس تبنى نظرية القومية التي حولت الدين اليهودي الى قومية بذاتها، في الوقت الذي اثبتت كل علوم السياسة والاجتماع ان الدين لا دخل له بتاتا في تشكيل القومية العرقية التي ينتمي تحتها شعب من الشعوب.

حين النظر للمسألة القومية سيجد الباحث في هذا المجال ان النظريات التي وظفت مفهوم القومية من خلال المشاعر الدينية او حتى الانتماءات الاجتماعية، قد ابتعدت كثيراً عن التصنيف البايولوجي الاجتماعي الذي اعتمدته النظريات العلمية في تحديد المواصفات القومية. إذ اننا إذا استندنا على مفهوم الانتماء الديني لتحديد القومية، فإن معنى ذلك بأن اللاديني الرافض لأي التزام ديني لا يمكن ان نضعه ضمن قومية من القوميات وذلك لسبب عدم انتماءه لهذا الدين او ذاك، لا بل وتنكره للدين الذي سيعني في هذه الحالة تنكره لقومتيه او انه يصبح لا قومية له وهذا ليس من المنطق المعقول والعلمي، إذ ان كل انسان لابد وأن تكون له جذور قومية هنا او هناك. وما ينطبق على المفهوم الديني للقومية ينعكس على المفهوم الاجتماعي الطبقي، إذ لا يمكننا تصنيف المسحوق طبقياً ضمن قومية اخرى تختلف عن القومية التي ينتمي لها المليونير او شيخ القبيلة او الموظف الكبير في ذلك المجتمع الذي يضم هذه المجموعة من البشر. في حين تتلاقح الفكرة البايولوجية مع مقتضيات العلم الحديث وما توصلت اليه الفحوصات المختبرية على الجينات ومدى علاقة ذلك بجذور الانتماء العرقي للإنسان.

يستند اليهود الصهاينة على بعض ما ورد في التوراة حول خصوصية ما سموه بالشعب اليهودي. فمثلاً ينص الإصحاح الرابع عشر في سفر التثنية وفي الفقرة الثانية على:

(سفر التثنية 14: 2) لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ"

او

ما جاء في سفر اللاويين (20/24، 26): "أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب... وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميَّزتكـم من الشعـوب لتكونوا لي". ويشـكر اليهــودي إلهه في كل الصلــوات لاختيــاره الشعب اليهودي"

حينما نناقش هذه النصوص وما يبني عليها بعض اليهود من افضلية اليهودي على سائر البشر، فسنصطدم هنا بنظريات تجعلنا نفكر بتفسير آخر لهذه الأفضلية، إن كانت من الله حقاً.

المشكلة الأولى هي استناد كثير من رواد التعصب العنصري على نظرية الأفضلية هذه بحيث لم يتوانوا عن خوض حروب طاحنة من اجل تحقيق مفهوم افضلية شعوبهم او قومياتهم على بقية الشعوب والقوميات. وليس ببعيد عنا ما قامت به النازية من مجازر ضد البشرية، واليهود من ضمن ضحايا النازية أيضاً، لتحقيق مقولتها في افضلية الجنس الآري على الأجناس كافة.

والمشكلة الثانية التي تأخذ عمقاً دينياً ايضاً حينما يتحدث المؤمنون بالله، واليهود المؤمنون من ضمنهم، عن العدل الإلهي والمساواة امام الله، حيث تتناقض نظرية الشعب المختار مع العدل الإلهي الذي لا يميز بين مخلوقاته، كما تدعي كل الأديان، خاصة ما تسمى بالإبراهيمية منها.

إلا ان الرابي شارجا سيمونس حاول تصحيح ذلك بقوله:

"حين اشارت التوراة الى اختيار اليهود لم يكن هذا لأنهم جنس أرقي، فالأمريكيون والاسيويون والروسيون والاوروبيون والأثيوبيون والسود والشرق اوسطيين هم اجزاء من الشعب اليهودي لان الجنس اليهودي متنوع.

ما هو التمييز اذن؟

تاريخيا الامر يبدأ من عند ابراهيم، فإبراهيم عاش في مجتمع وثني وواجه صعوبات ومحاربات لإيمانه بالله، وبعد عدة اختبارات اختار الله ابراهيم ونسله ليكونوا معلمين لرسالته. لذا يمكن القول ان اليهود هم من اختاروا الله وليس العكس، لان خطة الله كانت ان يكون العالم كله مؤمنا به، لكن بعد سقوط ادم لم يتبق اقوام من المؤمنين برسالة سماوية سوى اليهود فقط.

ووفقا لليهودية (التلمود – سنهدرين 58ب) فان اي شخص يمكنه ان يحقق مكانا في العالم الاتي إذا اتبع السبع وصايا الانسانية الملقبة بقوانين نوح لان جميع البشر ينحدرون من نوح، وهذه الوصايا هي:

1 – لا تقتل

2 – لا تسرق

3 – لا تعبد الهة باطلة

4 – لا ترتكب فسوقا جنسيا

5 – لا تأكل أطراف الحيوان قبل ان يقتل

6 – لا تلعن الله

7 – انشاء المحاكم وتقديم المجرمين للعدالة

إلا ان التوراة وضعت هذه الوصايا بشكل جديد سمتها الوصايا العشر لموسى، وجاءت على الشكل التالي:

اعبد يهوه الله وحده لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي.

لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ.

لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلًا، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلًا.

اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ.

الوصايا تجاه القريب

 أكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.

الوصايا تجاه المجتمع

 لَا تَقْتُلْ.

لَا تَزْنِ.

لَا تَسْرِقْ.

لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبك شَهَادَةَ زُورٍ.

لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلَا عَبْدَهُ، وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ، وَلَا حِمَارَهُ، وَلَا شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ.

نقطة أخرى مهمة ان أي شخص مهما كانت خلفيته العرقية او القومية يمكنه ان يصير عضو في الشعب اليهودي، فالتاريخ يحوي أسماء مهمة مثل راعوث (من اجداد الملك داوود) واونكيلوس حكيم التلمود كانوا من المتحولين الى اليهودية. ووفقا للقانون اليهودي (شولحان عاروخ) هناك ثلاثة شروط لابد من توافرها ليصبح التحول الى اليهودية كاملا:

1 – الميتسفوت: على المتحول ان يؤمن بالله وبقدسية التوراة، وان يقبل الـ 613 وصية المذكورين في التوراة. (والمقصود بالمتحول هنا ليس التحول الجنسي الشائع اليوم، بل التحول الديني)

2 – ميلاه: على المتحول ان يختتن على يد موهيل مؤهل (الموهيل هو الشخص الذي يقوم بختان الذكور)

3 – مكيفاه: على المتحول ان يغطس في المكيفاه وهو حوض متصل بخزان لمياه الامطار.

وفي العصر الحديث، حاول بعض المفكرين اليهود التخفيف من حدة مفهوم الشعب المختار. فقال ليو باييك إن كل شعب يتم اختياره ليكون له نصيب من تاريخ البشرية، ولكن حظ اليهود من هذا التاريخ أكبر من أي نصيب آخر. وقد تمرَّد دعاة حركة التنوير اليهودية، واليهودية الإصلاحية، على مفهوم الاختيار بمعناه العنصري والأخلاقي، وأحلوا محله فكرة الرسالة، ومفادها أن الإله شتَّت اليهود في أنحاء الأرض لا عقاباً لهم وإنما لينشروا رسالته وليصبحوا أداته في تحقيق السلام والخلاص. وقد تخلَّى التجديديون تماماً عن فكرة الاختيار. أما اليهـودية المحافظـة والأرثوذكسـية، فأبقت هذا المفهوم الديني وعمقته ووضعت الولادة من ام يهودية شرطاً آخر للانتماء.

إلا ان هذه المشكلة تتعمق بشكل ابعد لدى المسلمين الذين ينطلقون من العداء لليهودية، بالرغم من اعتراف الإسلام بها، حينما تشير النصوص القرآنية ذاتها الى ذلك. وعلى سبيل المثال:

" وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ " (20) المائدة

او

" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " البقرة (47)

من الطبيعي ان نجد مَن يكتشف المخارج لمثل هذه الإشكالات فيلجأ الى التأويل للنص او تفسيره بما ينطبق وافكاره ومعتقداته. فنجد مثلاً من يقول ان مصطلح العالمين لا يعني كل البشر، بل يتناول مجتمعات ذلك الزمان فقط، حيث كانت هناك مجتمعات عديمة الإيمان فضل الله بني اسرائيل عليها لإيمانهم برسالة موسى التوحيدية. وهنا نجد ايضاً نوعاً من التناقض بين العدل الإلهي الشامل والانحياز للمؤمنين به فقط.

ويجد البعض الآخر من المسلمين مخرجاً آخراً من هذه النصوص القرآنية التي تؤكد على تفضيل بني اسرائيل عندما يقارن بين النصوص التوراتية والنص القرآني القائل:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. آل عمران (110).

على اعتبار ان الإسلام خاتم الأديان وان هذا النص القرآني جاء في اعقاب النص التوراتي، لذلك فهو المأخوذ به باعتباره آخر نص إلهي بهذا الموضوع.

ومن المفيد هنا مناقشة هذه الفكرة، فكرة تقديس الشعب او الأمة، التي تأخذ ابعاداً فلسفية قد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفكرة الدينية لكي تعطي الدين قدسية أكثر.

تنطلق العقيدة اليهودية من نظرية الثالوث المتمثل بالله والشعب والوطن. واستناداً الى ذلك فإن الإله يحل على الأرض فيعطيها بذلك القدسية، وتصبح وطناً مقدساً لشعب هذه الأرض الذي يحل به الإله ليصبح هذا الشعب متميزاً على الشعوب الأخرى، اي يصبح شعباً مختاراً من قبل الله، او الشعب الأبدي.

لقد انتقلت فكرة الثالوث هذه من اليهودية الى المسيحية التي تعتقد بان الإله قد يحل في الإنسان فيضفي على هذا الإنسان قدسية خاصة، كما حدث مع عيسى المسيح الذي حلَّ الله به، فنشأت بذلك نظرية اللاهوت والناسوت المسيحية.

يتعرض هذا الموضوع بالذات، شعب الله المختار، الى اشكالات تطرحها الديانة اليهودية نفسها مشككة بالقدسية التي استندت عليها في النصوص اعلاه لتطرح نصوصاً مخالفة لذلك. ولو راجعنا كتاب التثنية في التوراة فسنجد ان الإصحاح الثاني والثلاثين يتضمن عبارات قاسية بحق الشعب اليهودي ويصفه بصفات تتعارض تماماً مع الفكرة السائدة باعتبار هذا الشعب هو الشعب الذي اختاره الإله من بين الشعوب ليكون شعبه الخاص به:

" انهم جيل متقلب اولاد لا امانة فيهم " التثنية 19

او

"اغاظوني بأباطيلهم " التثنية 21

او

" انهم امة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم " التثنية 28

ان هذا التناقض الذي تتضمنه النصوص التوراتية يشير بوضوح الى مدى التخبط الذي يرافق فكرة الشعب المختار التي صاغها فقهاء اليهودية. وهذا يشير ايضاً الى ضرورة البحث العلمي الجاد في نصوص التوراة ومدى قدسيتها وما حقيقة تدوينها. ومن يرغب بمواصلة البحث والتعمق في هذا الموضوع فليراجع كتاب سيد قمني المعنون: اسرائيل ... التوراة ... التاريخ ... التضليل، دار قباء، 1998.

إلا ان الإشكالية الأخرى المطروحة في هذا المجال هي ماهية الله الذي فضل اليهود وجعلهم شعبه المختار.

إذا راجعنا الوصايا العشر التي وضعتها اليهودية على شكلها الحالي كتكملة لوصايا نوح، فإن الإله المطروح للعبادة هنا هو " يهوه” (اعبد يهوه الله وحده). فهل ان هذا الإله يتعلق بتغيير الاسم فقط، اي هل ان الإشكال هنا في التعبير اللغوي الذي لا يغير من مضمون فهم الإله الإبراهيمي الذي ينبغي ان يكون إلهاً واحداً للأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، او ان الإله المقصود يهوه الذي له مضمون خاص عند اليهودية؟ إن هذا الاحتمال الثاني لفهم الإله يهوه ينطبق على نظرية الشعب المختار أكثر من الإله الإبراهيمي. اي ان اليهود في هذه الحالة هم الشعب المختار من إلههم يهوه، وبذلك يصبح هذا الاختيار عير ملزم للشعوب الأخرى.

عرض مقالات: