سئمت من تدوين ما يصادفني من حوادث يومية، اعتدت تسطيرها، بترهاتها و جدّيتها، في دفتري ذي الغلاف البني الداكن المرقط بندب كثيرة سببتها أعقاب السجائر التي أسهو أحياناً فأضعها فوقه، ولقد وجدت أن تغير شكل غلاف الدفتر، جعله يبدو مناسباً جداً لذوقي. اليوم اتخذت قراراً بالتوقف عن التدوين، والقرار له أسباب عديدة، ولكن واحداً من أهم دوافعه، هو نظرة الفضول السخيفة السمجة التي يرمقني بها مرافقي البولوني الشرير. اليوم زادت نظراته وقاحة وتطفلاً، فهو يرنو نحوي بعينيه بين لحظة وأخرى، ويبتسم ابتسامة شاحبة أشعر أنها تخفي لؤماً مبيتاً، ومع هذا كنت أحاول إهمال ذلك قدر المستطاع، لذا رحت أقلب قنوات التلفزيون بسرعة ودون عناية، محاولاً إبعاد اهتمامي عنه، ولكني أعرف جيداً نظراته المتلصصة الخبيثة وما يخفي وراءها أو ما يريد بها تحديداً. إنه يحاول استفزازي ويعاند في ذلك، لذا طويت الدفتر ولم أعد أعطي له مجالاً  لتلقف ما سطرته من كلمات. أُدرك أنه لا يعرف اللغة التي أكتب بها، ولكنه يفعل هذا من باب المناكدة التي أبغضها وأمقتها، إنه يحاول إثارتي ليس إلا.

فضوله يثير شفقتي، ولكنني أمقت ذلك، بقدر ما أحمل له من كره كشخص أشعر أنه فـُرض علي فرضاً من قبل مسؤولة  البلدية في منطقة السكن، العجوز كاترينا. لم أستطع حينها رفضه فثمة موانع كثيرة كانت تقف في مواجهة هذا الأمر، ليس أقلها أني وللمرة الثالثة أتشاجر مع المرافق الذي خصصته البلدية لمساعدتي. المرة الأخيرة كان المرافق هو من طلب إعفائه من مهمة مرافقتي بحجة تكرار عراكي وخصوماتي غير المبررة. والأكثر من هذا ادعى أني حاولت شتمه والطعن بشرفه دون وجود مبرر معقول لذلك، وتمادى في نهاية الأمر، وقال وعلى مسمع مني بأنه لا يحتمل بعد الآن التعامل مع معتوه مجنون ووحش مثلي، فردت عليه المسؤولة  بشيء من الغضب، وطلبت منه أن يترك مفتاح الشقة وبطاقة المرافقة، ففعل ذلك بسرعة وكأنه يحاول التخلص من حمل ثقيل.

 لم أغضب حينها وشعرت بشيء من الراحة، ولم أحاول إنكار الأمر أمام كاترينا العجوز المسؤولة عن ملفـّي الشخصي في سلطة البلدية. ولم تكن لي حينها رغبة للرد على اتهاماته، أو الأحرى وبالوصف الدقيق، كنت منتشياً، وانتابتني حالة من السعادة وأنا أراه يتحدث بصوت مهشم ومتعب وبوجه شاحب، شارحاً علاقته المتوترة معي وأسلوبي الفظ وغير العقلاني بالتعامل، وامتناعي المستمر ولساعات عن الحديث معه.

ذاك اليوم واجهتني كاترينا، وللمرة الأولى، بشيء من الحنق والغضب والنظرات غير المريحة، وبنوع من الاشمئزاز وكأنها تعني ما تقول بشكل جازم لا لبس فيه.

ـ هذا ثالث مرافق يشتكيك ويهرب منك، إذا أستمر هذا الحال سوف نضطر لإرجاعك إلى دار العناية بكبار السن.هل ترغب بذلك..لماذا لا تريد أن تكون طبيعياً..؟

انتابتني قشعريرة وشعرت بمرارة تتصاعد في أحشائي ونطق لساني بصوت خافت أقرب للهمس.

ـ لا، أرجوك..لا أريد العودة إلى دار العجزة..أرجوك، سيكون حالي أفضل..سأغير من وضعي..أعدك بذلك...سوف أجعل حالي أفضل بكل تأكيد..ليس دار العجزة أرجوك..سوف يتحسن الحال...

أملك مشاعر متضاربة حول هذه السيدة العجوز. ففي بعض الأحيان أشعر بميل مناسب نحوها، وأغبط نفسي كونها تعتني بي  وتراقب وضعي وتعطيني  الحلول لبعض مشاكلي، لا بل تساعدني في الكثير مما أنشده من مساعدة، وهي تشرف على علاقتي بالمرافق  ونوعية الخدمات التي يقدمها لي. ولكني في ذات الوقت أكره فيها صرامتها ومزاجها المتقلب وتأنيبها المستمر لي.

في ذلك الوقت شعرت بمقدار الحزن الكثيف الذي سيطر عليّ، وانتابتني حالة من الفزع وأنا أتذكر دار العناية بالكبار الذي هددتني بإرجاعي إليه. ذلك المشفى الذي يبعث في الروح قتامة وسوداوية مفزعتين. برائحة ممراته العطنة وبهوائه المشبع بروائح الموت، وعجائزه من النساء والرجال حين يروحون ويغدون في ممراته مثل أشباح متهالكة  تنتظر أن تغلق عليها التوابيت، وليله الطويل المعتم وأصوات التأوهات المكتومة. لقد قضيت هناك ما يقارب السنة رغم كوني بعمر الأربعين، كنت أظن أن لا مخرج لي  بعدها لحياة سوية. نقلوني إلى تلك الدار بعد أن رقدت في المستشفى لفترة ثلاثة أشهر إثر سقوطي من شرفة الشقة التي كنت أسكنها لوحدي في منطقة تنستا في العاصمة ستوكهولم. سُجل الحادث عند الشرطة كحالة انتحار، وفسرت اللجنة الطبية في سلطة البلدية الحادث بالمعنى ذاته، الذي استقر عليه تقرير الشرطة، بالرغم من أني أخبرتهم بأني قفزت من الشرفة بدواعي محاولتي إنقاذ صديقي فؤاد المضرج بالدم، والذي كان يلوح لي بيده، وصوته يذوي ويختفي مع التأوه والتوجع. لقد مزقته الشظايا، والثقوب ظاهرة فوق بذلته الخاكية وكان الدم  ينز منها بقوة. وأردت أيضاً منع أمي من تمزيق صورة كانت تلوح بها في الهواء وتهددني بتمزيقها، وما كنت لأعرف صاحب الصورة، ولكنه بدا بشكله الخارجي قريب الشبه  مني. وكان طفلا صغيرا يشبهني أيضاً يسحب ثوبها ويتوسلها أن تعطيه الصورة، بينما كان يغرق في مياه البحيرة. أردت الاقتراب منهم، حاولت الوصول إليهم، لم يكونوا بعيدين عني. لقد حزمت أمري فلم أكن مستعداً لمنع نفسي من إنقاذ صديقي، والحصول على رضا أمي وإيقاف الغضب التي سيطر عليها دون مبرر. استطعت أن أمسك بيديَّ وبقوة سياج الشرفة وأترك جسدي يتدلى نحوهم. كان صوت فؤاد يختلط بصراخ الطفل، وهواء كثيف يندفع ليرفعني نحو الأعلى. لامست أصابع الطفل، سحبتها ولكنها تمطّت، وبقي الطفل عالقاً وسط الماء. كنت أنا أتمدد أيضاً وأجرجر قدميّ  بتثاقل لكي أصل إلى ما بعد الساتر حيث يرقد فؤاد. شاهدت دموعه وشعرت مقدار الوهن الذي كان عليه جسده. لقد كان هناك صوت عميق ثقيل يندفع صداه في أذنيّ. أصغيت له جيداً. شعرت ببرد  قارس وثمة ألوان كثيفة تتجمع في عينيّ. كان جسدي ينسحب خفيفاً مثل ريشة يلاعبها الهواء، والسماء تقترب مني شديدة الزرقة، تشع من خلالها ألوان تومض مثل البرق. انزلق جسدي وهويت، اقتربت منهم أكثر وأكثر. لم أفق بعد تلك اللحظة، وأظن أني بقيت مغشياً عليَّ لفترة طويلة. وحين أفقت من غيبوبتي وجدت نفسي أرقد في مستشفى  داندريد غرب العاصمة ستوكهولم، مسجّى فوق سرير قريب من النافذة. تحسست جسدي فوجدتني لا أستطيع تحريك يديّ وقدميّ من الجانب الأيسر، وأن رأسي تغطـّيه لفافة ثقيلة. قال لي الطبيب إن غيبوبتي استمرت لأكثر من أسبوعين، وراودهم اعتقاد بأن المدة سوف تطول بسبب إصابة الرأس، ولكن يبدو أن جسدي يمتلك القوة الكافية للتماثل على الشفاء. هذا ما قاله وهو يسلط ضوء الكشاف داخل عيني. 

  دوّن في تقرير الشرطة أن ليس هناك شخص باسم فؤاد يسكن بالقرب من شقتي، أو يمت لي بصلة في مدينة ستوكهولم أو خارجها، وأن البحيرة ليست جوار شقتي بالضبط، وأن أمي ما زالت تسكن العراق. وأكـّد التقرير على أن الحادثة كانت محاولة انتحار، ربما سبقها تناول بعض حبوب الهلوسة أو بعض الحبوب المهدئة التي وجدوها قرب سريري. اعترضت على تقرير الشرطة وحاولت أن أفهمهم بأن ما حدث كان صحيحاً كل الصحة، وأني لست مختل العقل، ولم أتناول طيلة حياتي أي نوع من الممنوعات أو الشراب المسكر. وكنت بكامل وعيي حين شاهدت ولمست ما حدث، ولم يكن حلماً  أو خدعة أو هلوسة. لم يصغ لي أحد  ولم يرغبوا الاستماع للوقائع التي عشتها وشاهدتها لا بل لمستها. لم يصدق قصتي سوى الممرضة السمراء الهندية الأصل راشما. كانت تواسيني وتضمد جرحي كأم رؤوم، وتجلس في الكثير من الوقت  جوار سريري تحكي لي حكايات عن عالم السحر والأرواح، وكانت تعتني بجراحي التي سببت لي بالنتيجة إعاقة في أطرافي اليسرى وشلتني عن الحركة.

أتأمل وجه راشما وهي تناولني الدواء، وتحاول مساعدتي على ابتلاع  أقراصه العديدة الكريهة الطعم والرائحة، وكنت أنظر يديها الناعمتين وهما تجددان لفافة الرأس الذي شُجّ بجرح غائر مثلما أخبرتني، وكانت تقول كل مرة وهي تداعبني بابتسامتها الرقيقة الخجولة إن الإله كرشنا حماني كثيراً، وهي في كل يوم تصلي له ليكون حارسي الأمين.

 قضيت الأشهر الثلاثة في المستشفى وأنا أتقلب بشكل يومي بين يدي الأطباء. قضيت معظم وقتي أراقب مرآب السيارات وحركة الناس أمام نافذتي، وأتناول الطعام في السرير وأشاهد برامج التلفزيون المعلق في زاوية الغرفة التي يشاركني فيها رجل مسن يئنّ طوال الليل، وقد اختفى بعد فترة زمنية دون أن أعرف إلى أين ذهبوا به، ولم أرغب في السؤال عنه. وبعد يومين حل محله شيخ آخر أكثر توجعاً وأنيناً. كنت طيلة الوقت أحاول تذكر الحادث وإعادة تصويره في ذهني المرتبك والمشوش. كنت على يقين تام بأن ما حدث معي لم يكن هذياناً  أو أضغاث أحلام  أو حتى تهويمة. صحيح أني مرتبك في نومي، وأعاني من قلق وفزع وكوابيس دائمة، وأتناول عند الحاجة بعض الحبوب دفعاً للأرق، ولكني كنت أنظر للأمر بوضوح شديد ويقينية. ولكني كنت دائماً، حين أتذكر كل تلك الأشياء، أجد نفسي بين حالتي الغضب الذي يخالطه الحزن فتسيطر عليَّ مشاعر من كآبة شديدة، شخّصها الأطباء بكآبة مرضية متواترة  ورهاب، ولم أفهم لحد الآن معنى الكآبة المتواترة ولا حتى الرهاب.

في أيامي الأخيرة في المستشفى، حققت معي شرطية جميلة كانت تفغر فمها بسذاجة مفرطة وبمسحة أسف ظاهرة، تنصت لحديثي وكأنها مسحورة وتدون في دفترها بعض الملاحظات، وقد خرجت وهي تودعني بابتسامة باهته شعرت بأنها كانت تجبر نفسها على افتعالها بكياسة شديدة، ولم أرها بعد هذه المرة. كانت أيامي تمر ببطء شديد، وتكتسي بملل ممض، وبين فترة وأخرى أستدعى للفحص من قبل مجموعة أطباء وتلتقط لرأسي صور بالأشعة. وقد تحسن وضعي الصحي بشكل سريع بعد أن تقدمت بالعلاج الطبيعي وبدأت السير ببطء وتحريك يدي اليسرى بعض الشيء. في أسبوعي الأخير في مستشفى داندريد، كنت كمن مسّه الجنون، فطيلة الوقت أشعر بأن الجميع يسيئون معاملتي وسيطرت عليَّ رغبة بالهروب، ولكني كنت أشعر بأني لم أسترد بعد عافيتي، وقوتي الحقيقية التي تمكنني من العيش دون اعتماد على الآخرين. كنت أعرف مقدار عجزي، فتنتابني مشاعر خوف وفزع لا أعرف كيف أسيطر عليهما. كنت أحس بين فترة وأخرى بالاختناق، وأحاول أن أسبر وجوه من أواجههم كي أكتشف ما يخبئونه لي. ربما هي مشاعر مريض واهن القوى، ولكنه كان إحساساً يرقد في قلبي بشكل ثقيل دون فكاك. حين ذهبت إلى الطبيب النفساني قادتني راشما إليه. عند باب الطبيب ركنت مقعدي المتحرك، وتوسلتها بنظراتي أن لا تتركني وحدي، كنت أشعر بضعفي، وأن ما يتملكني من مشاعر مهزوزة  لم تكن  لتساعدني للإجابة على جميع الأسئلة التي سوف يطرحها هذا المخبول الذي مللت من بحثه المضني، عن سلوك غير سوي ينتاب تصرفاتي جراء إصابة الرأس، مثلما كاشفني هو بذلك. لكن راشما تركتني وودعتني بابتسامة لذيذة بعثت في روحي بعضاً من الطمأنينة.

بداية، لم يلتفت لي، بل كانت نظراته تتسقط ما هو مدون على ورقة في يده، وبعد لحظات وقف وسط الغرفة ومد لي يده مصافحا وذكر كالعادة اسمه ثم طلب مني الجلوس.

ومثل كلّ المرات السابقة، كررّ علي الأسئلة ذاتها، عدد الإخوة والأخوات، الحالة الاجتماعية، هل أجيد السباحة أو أية رياضة أخرى، علاقاتي بجيراني، نوعية الأفلام التي أرغب مشاهدتها، هل لي علاقات جنسية، نوع المشروبات الكحولية التي أفضلها. أجبته عن كل ذلك، ثم طلب مني أن أوضح العلاقة التي تربطني بفؤاد الذي ذُكر في التقرير، فشرحت له تلك العلاقة وصداقتنا التي صنعتها ظروف المعارك في جبهات القتال.وسألني عن صلة القرابة التي تربطني بفؤاد، فأخبرته بأن لا علاقة قرابة تربطنا، ولكنه كان أقرب لي من الجميع في تلك المحنة. لقد أصيب أثناء الهجوم في منطقة الشوش الإيرانية، كان ينزف دماً قرب الساتر، كان القصف كثيفاً، وكان فؤاد يناديني، ولكني لم أستطع التقدم نحوه، لقد تركته ينزف هناك وهربت، نعم هربت. عندما تحدثت بذلك كانت عواطفي تنفجر انفجاراً عنيفاً، فوجدت جسدي يرتعش، ورحت في نوبة حادة من البكاء. لم يحرك الطبيب ساكناً، وتركني على حالي وراح يطالع ما مدون على جهاز الكومبيوتر الذي أمامه. عندما هدأت بعض الشيء، اختلس الطبيب النظر نحوي ومد يده نحو ساقي مربتاً  دون أن يبدي عاطفة محددة. شعرت في تلك اللحظات بمقدار حاجتي لمواساة، مواساة تمحضني شيئاً من عاطفة  تواسيني بقدر الألم الذي يعتصر صدري، ربما راشما هي من كنت أرغب أن تكون جواري هذه اللحظة.

في تلك اللحظات دخلت فتاة بثياب الممرضات، وسلمت الطبيب ورقة وحدثته في أمر لم أنتبه له. كنت حينها أمسح دموعي وأشعر بتكسر الحسرات في صدري. كانت هناك مشاعر لا أعرف كنهها تنتابني بحدة، تختلط مع عجزي الذي شعرته كاملاً. تلك المشاعر التي سببت لي تشنجات وألماً رهيباً وكأن شيئاً ما يريد الإفلات من رأسي. لم يكن وجه الطبيب ذي السحنة البيضاء الباردة بنظرته الجامدة ليساعدني على احتمال كل ذلك الألم، أو إبعاد ما يساورني من أحاسيس مضطربة. تأكدت بأنه لن يكون أكثر من شخص فظ ّ بارد العواطف، يريد أن يصل إلى نتيجة ترضي أنانيته. بعد هذا طلب منّي مثل المرات السابقة أن أروي له قصة هروبي من الخدمة العسكرية، ثم كيف تسنى لي الوصول إلى السويد. أعدت عليه القصة كاملة، ولكنه أوقفني عن الحديث عند جملة بعينها. وبعد أن وصلت في وصف رحلتي عند دخولي مدينة موسكو، سألني عن معالم المدينة وإن كنت زرت قبر لينين في العاصمة فقلت له بأني عشت في مدينة بطرسبورغ وليس في موسكو. ثم سألني هل سبق أن انتميت لحزب سياسي أيام دراستي الجامعية، وما هي عدد سنوات عملي الحزبي وهل تعرضت للاعتقال أو التعذيب في العراق.

صَمتُّ ولم أستطع التعبير عن غضبي، ولكن دارت في رأسي جملة من شتائم، عبارات ماجنة قبيحة، شعرت بأن هذا الطبيب يستحقها. فبعد أن كنت أحاول السيطرة على نفسي والتصالح مع عالمي الذي أعيشه، أشعر الآن بأن هذا الطبيب يحاول رميي خارج ذلك العالم. أنا المريض الخائر القوى المشتت البال عليَّ الآن أن أحزر ما يخبئه لي هذا الدكتور الجاسوس، ما يريد أن يصل إليه. هذا الأمر أغاظني أيما إغاظة، وبدأ يجرح مشاعري، وتذكرت حكاية صاحبي الذي أخبرني عن فضيحة تناولتها الصحف السويدية  في يوم ما حول علاقة مدير شرطة العاصمة السويدية بالسفارة العراقية، وكيف كان يزودها بأسماء طالبي اللجوء والتحقيقات التي تجريها السلطات السويدية معهم.

بعد أن جاش في صدري الضيق والضجر والفزع، شعرت بعواصف تلف رأسي لم أعد أحتملها، وأيقنت بشكل كامل بأنه يبغضني بشكل واضح، ويريد أن يستدرجني ليوقع بي، وهذا ما يبدو من هيئته المتعجرفة وأسئلته ألمباغته الحقودة. انفجرت أخيراً على حين بغتة وصرخت بأعلى صوتي.

ـ لا لم تكن لي علاقة بأي حزب، والموت وحده من دفعني للهروب من العراق. وإن أردت أن تدون ما ترغب في إيصاله إلى السفارة العراقية فسجل عندك بأني أكره الحكومة وأمقتها كل المقت.

كان جوابي المباغت من الوضوح والحدة بحيث رفع جسده سريعاً عن المقعد ليقترب مني ويربّت بيده على كتفي، وبتهذيب شديد طلب مني أن أطمئنّ وأريح نفسي، وأن لا أفكر الآن بالإجابة. ولكني لم أنتظر فدفعت يده جانباً ورفعت قامتي بصعوبة بالغة، وفتحت الباب وحملت قدميّ على المسير في الممر الطويل ناسياً استخدام مقعدي المتحرك الراقد جوار الباب.

في اليوم الثاني كنت أجلس مهموماً ساهماً حين سألتني الممرضة راشما عن رأيي بالإله كرشنا وهل حلمت به أو رأيته في وقت ما يجلس جواري، فضحكت وقلت لها مازحا: أكيد، ولكنه لم يكن لوحده فقد جلس معه إمامان من آل البيت، فدهشت أيما دهشة وتساءلت عمن يكون آل البيت، وطلبت مني أن أحدثها عنهم فوعدتها، ولكني، ولحد الآن، لم أف بوعدي، فقد غادرت المستشفى حيث تم نقلي إلى دار العجزة في منطقة سولنتونا في شمال العاصمة ستوكهولم.

ـ أين أنت يا راشما ؟...أين أنت ؟

في ذلك الوقت طالعتني العجوز كاترينا باستغراب ودهشة وهي تسألني عمن تكون هذه الراشما.

ـ لا شيء، تذكرت ممرضتي اللطيفة التي ساعدتني في المستشفى.

ـ لا شيء جديداً إذن.. سوف نجد لك مرافقاً آخر يساعدك في قضاء بعض حاجاتك، ولكن عدني بأن تكون لطيفا كيسا معه، وتترك عاداتك السيئة.

ـ أعدك سيدتي ..ولكن..

ـ ليس هناك لكن بعد الذي حدث.

شكرتها وخرجت تحيطني غمامة من ضجر، وشيء من خوف يغلّ في صدري. أعرف أني لم أكن أملك الكياسة التي يترقبها مني الناس، ولكن على شدة ما عانيته في مجمل حياتي أشعر بأن شفائي من جروح النفس لا يمكن أن يكون سهلاً وطبيعياً  أو ما يعادل شفائي من علة الجسد. فمشاعر الخوف والتوجس باتت تهد طاقتي، وأصبحت اندفاعاتي مقلقة لي بالذات، فمثل الهذيان تفلت مني تصرفات لا أجد لها تفسيراً، وأسرف في سلوكي الخائف والمشكك ولا أستطيع السيطرة على مشاعر الغضب من غير أن أحبس نفسي داخل قوقعتها، وأترك العالم الخارجي يدور حولي مثل غمامة لا علاقة لها بما يجري في روحي، وما يعتمل في ذهني. وبتّ أشعر بأن الأماكن مسكونة بأرواح لا هم لها سوى مراقبتي وإثارتي.

 

عرض مقالات: