قد يكون مألوفاً أن يأتي نقد متطرف للرأسمالية من رموز اليسار الأميركي كالسيناتور بيرني ساندرز، لكن من المدهش أن يأتي توقع قاتم عن ضرب أسس الرأسمالية من قلب أحد أعرق وأبرز بنوك الاستثمار الرأسمالي في العالم. وقد استخدم ذلك النقد مصطلحاً مستجداً هو “غريدفلايشن” Greedflation في وصف أساس هذه الرؤية المتشائمة الحادة، وفق مقالة ظهرت أخيراً في موقع مجلة “فورتشين” الأميركية المتخصصة في عوالم المال والأعمال. وتوضيحاً، يتألف “غريدفلايشن” من شقين هما الطمع “غريد” والتضخم “إنفلايشن” Inflation، فيكون المعنى قريباً من “الطمع التضخمي” أو “تضخم الطمع” أو ربما “التضخم بالطمع”، في إشارة إلى أن التضخم المقلق الذي يعانيه الاقتصاد العالمي حاضراً، يأتي بدفع من انفلات الطمع في مسار الرأسمالية، بحيث إنه انفلت من الضوابط، حيث “يفترض” أن النظام الرأسمالي يوازن بين تحقيق المكاسب والثروات وتراكم رأس المال من جهة، وبين الحفاظ على التوازن الاجتماعي وتحقيق مكاسب للطبقات الواسعة في المجتمع، خصوصاً الطبقات الوسطى والدنيا.

النيوليبرالية كعلاج لـ «ستاغفلايشن»

استطراداً، يذكر المصطلح الآنف الذكر بنظير له ظهر في سبيعينيات القرن الـ20، إبان ولاية الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر، هو “ستاغ فلايشن” Stagflation الذي يجمع بين الركود “ستاغنيشن”  Stagnation والتضخم “إنفلايشن”. وآنذاك، استعمل ذلك المصطلح في وصف حال ساد الاقتصاد العالمي، خصوصاً الولايات المتحدة، وتجمعت فيه البطالة المتفشية مع تضخم غير مألوف وتباطؤ في الاستثمار والنمو الاقتصادي. وفي تلك الآونة، وجد الاقتصاد الرأسمالي العالمي خلاصه في النيوليبرالية التي قادها الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطاني مارغريت تاتشر، ثم سادت العالم الغربي وانتشرت خارجه.

ووفق ما بات شائعاً، تميزت النيوليبرالية بالعمل على إنهاء دولة الضمان الاجتماعي التي تبناها النظام الرأسمالي العالمي في سنوات العقود الثلاثة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الـ”ستاغ فلايشن”. وتبنت النيوليبرالية العمل على إطلاق الخصخصة إلى أقصى حدود، وتخلي الدولة عن ممتلكاتها وتقليص القطاع العام وتفكيكه إلى أقصى حد ممكن، وانسحاب الدولة من دورها في ضمان الأمن الاجتماعي للقاعدة الواسعة من السكان والتملص من تقديم الدعم للسلع الأساسية كالغذاء والطاقة والدواء، والنأي عن الدعم في مجال الصحة والصناعة والزراعة وغيرها.

بالاسترجاع أيضاً، عولجت الآثار الاقتصادية السلبية المؤلمة التي تولدت من تبني النيوليبرالية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، عبر العولمة ونقل الاقتصادات الكبرى أساساً، ثم الاقتصادات الأصغر حجماً، إلى آفاق العولمة.

وقدمت نهاية “الحرب الباردة” وانتصار النموذج الرأسمالي، دفعاً أساسياً للعولمة ومؤسساتها الاقتصادية، خصوصاً الشركات الكبرى التي صارت معولمة وعملاقة.

وبالمقارنة، جاءت حرب أوكرانيا، الأولى في العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، بالترافق مع تأزمات كبرى شملت صعود تيارات الشعبوية المعاصرة التي تميل في معظمها الى التخلي عن العولمة، بل العداء لها، على غرار الموجة الشعبوية الأميركية التي حملت دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة الأميركية، ليكون التعبير الأشد كثافة عن رأسمالية متجهة إلى مرحلة ما بعد العولمة.

انفلات الطمع في زمن الحرب والتضخم

بحسب مقالة “فورتشن” المشار إليها في مطلع المقالة، يرى المحلل الاقتصادي الاستراتيجي ألبرت إدواردز، الذي يعمل في مؤسسة “سوسيتيه جنرال” Société Générale صاحبة الـ159 سنة من الخبرة في القطاع البنكي، أن النظام الرأسمالي العالمي الحاضر يعاني ظاهرة الـ”غريد فلايشن” المقلقة. ووفق النموذج الرأسمالي، يفترض أن تؤدي زيادة تكاليف الإنتاج، إلى تقلص في أرباح الشركات بأثر من تقلص الطلب والاستهلاك من جهة، إضافة إلى الضغط المتولد من رفع الأجور. والمفارقة أن التضخم الهائل الذي يستمر في تحدي إجراءات ضبطه، بحسب معظم المرجعيات الرسمية الغربية، يترافق مع ارتفاع كبير في أرباح الشركات، مما يتحدى المعادلات الرأسمالية الراسخة، وفق مجلة “فورتشين”.

وبحسب الخبير المتمرس إدواردز، فقد استعملت الشركات في الاقتصادات المتقدمة كأميركا وبريطانيا، ارتفاع كلفة المواد الأولية، بما في ذلك الطاقة، خلال الجائحة وحرب أوكرانيا، كـ”ذريعة” لرفع الأسعار وتوسيع هوامش الربح إلى ارتفاعات قصوى.

وضمن المقالة نفسها، ذكرت “فورتشن” بأن بنك “سوسيتيه جنرال” العريق يحوز مكانة راسخة في النظام الرأسمالي العالمي. إذ إنه ضمن نخبة من البنوك المصنفة بوصفها “مهمة بشكل مستمر ومنهجي”، من قبل “هيئة الاستقرار المالي” Financial Stability Board التي أسستها “مجموعة الـ20” كي تكون أداة متخصصة في صيانة استقرار النظام المالي العالمي، وفق “فورتشين”. وتذكيراً، تتألف “مجموعة الـ20” من 19 دولة رأسمالية إضافة إلى “الاتحاد الأوروبي”.

وفي السياق نفسه، كتب إدواردز مقالا في مجلة “غلوبال ستراتيجي ويكلي” Global Strategy Weekly، لاحظ فيه أنه يشتغل منذ أربعة عقود في الاقتصاد لكنه لم ير أبداً ما يشبه الموجة الحالية من الـ”غريدفلايشن” لدى الشركات الرأسمالية. وقد وصف تلك الموجة بأنها “غير مسبوقة في التاريخ”. وكذلك استند إدواردز إلى تقرير صدر أخيراً من “بنك الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي، وثق أن التضخم الذي انفلت في 2021 ترافق مع صعود هائل في النسبة بين الأسعار التي تفرضها الشركات وبين كلفة الإنتاج، بشكل لم يحصل في التاريخ الاقتصادي كله. وكذلك أقر “الاحتياطي” بصعوبة السيطرة على ذلك التضخم. 

وفي مسار الحل، لم يفت إدواردز التذكير بآراء خبراء اقتصاديين أميركيين بارزين على غرار الأستاذين الأكاديميين في “جامعة ماساشوستس امهارست”، إيفان وازنر وإيزابيلا ويبر، بشأن الحل الأفضل في التصدي للأزمة الحاضرة التي يعانيها الاقتصاد العالمي. وكخلاصة، رأى إدواردز، عقب تحليل مؤشرات مالية واقتصادية متنوعة، أن الحل الفعلي لظاهرة “غريدفلايشن” والأزمات المصاحبة لها، يكمن في السيطرة على الأسعار وخفضها، حتى لو اقتضى ذلك تدخلاً من الدولة ومؤسساتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 8 نيسان 2023

عرض مقالات: