طريق الشعب - ­لندن (خاص)- علي رفيق

 ياس خضر: طاهر بركات، فنان موسيقي، كمانجاتي، ملتزم، جاد بكل الأمور، وعازف متميز.

حسين نعمة: هو رجل ثقيل الجسد، طويل، لكنه خفيف الظل، صاحب ابتسامه لن تفارق وجهه أبدا، وفي عزفه فنان كبير، يستحق أكثر من احتفالية وتكريم.                                                                 

طاهر بركات: الموسيقى وجدت معي في العائلة، فتحت عيني على الموسيقى. بهذه الكلمات، ابتدأ المقهى الثقافي العراقي في لندن أمسيته، التي عاد بها الى اللقاء مع جمهوره من الجالية العراقية في العاصمة البريطانية بعد غياب، قسري، دام لأكثر من عامين، توقف فيها المقهى عن نشاطاته، فيزياويا (أمسياته الحية في قاعة)، وذلك بسبب الإغلاق العام الذي نفذته الحكومة البريطانية أبان انتشار فايروس كورونا، درءا لتفشي الجائحة في الأماكن العامة.. وعلى الرغم من أن المقهى وجد وسيلة أخرى للتواصل مع زبائنه حيث بث على صفحته الألكترونية على الشبكة العنكبوتية عشرات المواد الثقافية، المصورة سينمائيا ام تلفزيونيا، غطت كل الحقول الإبداعية وبمعدل اسبوعي طيلة فترة الإغلاق ، وقد تابع تلك المواد الآلاف من مختلف بقاع العالم ، الأمر الذي أغنى  أرشيف الصفحة بالفيسبوك ، ذلك الأرشيف الموجود على صفحة المقهى في كل الأحيان ، وقد تضمن افلاما سينمائية كلاسيكية عراقية وعربية وعالمية وكذلك عروضا مسرحية وسيرا ذاتية لمبدعين مهمين ، علاوة على تسجيلات الأماسي، بالفيديو، التي قدمها المقهى منذ تأسيسه عام 2011.

في نهاية الشهر الماضي ايلول/ سبتمبر 2022، عاد المقهى، الى القاعة. فكانت أمسيته بعنوان " حديث عن شجن اللحن العراقي" قدمها الفنان الموسيقي طاهر بركات وقد تضمنت جانبا نظريا تناول فيه ما إمتاز به الغناء العراقي منذ بداية القرن الماضي وجاء على ذكر من هم أبرز المؤدين له ، وماهي الإيقاعات التي إعتمدها ، وجاء على ذكر الأطوار والمقامات والأساليب الغنائية .. وقدم للأمسية الفنان محمد بركات وحاور الفنان شافي الجيلاوي الفنان الضيف بركات الذي قدم إضافة الى محاورالأمسية النظرية  والتاريخية ، نماذج من الغناء العراقي بصوته وبعزفه ، شاركه بالعزف على الإيقاع الفنان بهاء جوزي .

جاءت في كلمة المقدم كلمات تعريفية بالفنان طاهر، والأجواء التي ترعرع فيها سواء في بيئته العائلية التي فيها أكثر من فنان فقد ذكر ان والده كان فنانا تشكيليا واخاه فوتوغرافيا وسينمائيا واخا ثانيا موسيقيا، هذا علاوة على بيئة مدينته السماوة التي برز فيها كثير من المبدعين في أكثر من حقل ثقافي.. وأضاف معرجا على تواصل الفنان طاهر بالوطن:" يخوض الشعب العراقي حاليا كفاحا من أجل حياة حرة كريمة، كل الأحلام فيك يا وطني مقيدة، فالوعود تحتسيها أدعية الأمهات لعلها تستطيع أن تشيد البنايات.. قلوب الشعب تفور في (تنور) من العوز والحرمان، ثائرة كموج بركان، علمك يا وطني مرفوع عاليا وألوانه من سرك المكنون في عروقك".

عرضت الأمسية على الشاشة الكبيرة فيلما وثائقيا قصيرا نفذه محمد بركات والمخرج علي السلطاني في محافظة المثنى .. تضمن السيرة الذاتية لضيف الأمسية الفنان طاهر بركات وشهادات لفنانين عراقيين معروفين عمل معهم ومنها شهادة أخيه الفنان رعد بركات الذي قال عنه :" إتخذ من التراث ميدانا للدراسة ، فكان متميزا في البحث عن الموسيقى وجذورها ومصادرها ، ويعتبر من القليلين الذين بحثوا في موضوع الأطوار الغنائية (العراقية تحديدا) ، إضافة الى ولعّه بصناعة الآلات الموسيقية وتطويرها وتحويرها ".

وأكد الفيلم على ان الفنان بركات عمل في الوسط الفني منذ أربعين عاما عاشر فيها  النجوم بأجيالهم الأربعة مثل : لميعة توفيق ، رضا علي، أحلام وهبي ، سعيد العزاوي .. ثم جيل ليل البنفسج : ياس خضر ، حسين نعمة ، فؤاد سالم وغيرهم ، وجيل الفنانين الذين جاؤوا بعده: هيثم يوسف، حاتم العراقي ، محمد عبد الجبار ، علي العزاوي ، قاسم السلطان وآخرين كثيرين .

وأضاف الفيلم ان الفنان بركات كتب ولحن العديد من الأغنيات العاطفية والوطنية .

إبتدأ الفنان شافي الجيلاوي الأمسية بتكليف من المقهى الثقافي العراقي في لندن ، بإدارة الحوار مع الفنان الضيف فقال:" نحن اليوم في حضرة الفن وأمام فنان يعرفه غالبية الحضور ، لكني أعتبره كنزا فنيا لما يحمله من معلومات قيمة ومتنوعة عن الموروث الموسيقي والغنائي العراقيين ، وله دراية ومعرفة به، تبهر حتى من يعمل في هذا المجال ، ولذا سيكون حوارنا معه ، شفافا، ليقودنا الى اكتشاف المضمور والمخبأ من درر في الفن العراقي الأصيل".

طرح الفنان الجيلاوي عدة أسئلة ، إنطوت على محاور مهمة ، أجاب عليها الفنان طاهر بركات بتكثيف واف ، وبأسلوب سلس جذاب ، كثيرا ما توقف وبادر بتقديم النماذج والأمثلة ، بالغناء والعزف ، ودارت تلك المحاور حول الموضوعات والعناوين التالية :

* الألحان العراقية أبتدعها (إبتكرها) مبدعوها نتيجة جهد مضن ، فجاءت بمقامات موسيقية ملائمة لكلمات أغانيهم ، وأنطوت على تفردها وجدتها ، عكس ما نراه اليوم من ألحان بسيطة تفتقر للعمق الأسلوبي ، فهي تقتصر على حرفين موسيقيين فقط ، والتي قارنها طاهر او أطلق عليها ( القوالات ، التنويمات) تلك التي كانت تقولها او ترددها أمهاتنا بشكل عفوي فطري .

* الملحنون العراقيون الأوائل قاموا بمحاكاة الطبيعة، التي تضج بتنوع كبير بالأصوات، فالموسيقى موجودة في الكون منذ الأزل، في اصوات العصافير، في حفيف الأشجار، الإيقاع موجود بوجود الإنسان، وبوجود دقات (نبض) قلبه.

* في مطلع القرن الماضي برز ملحنون عراقيون أبرزهم كانوا من إخواننا اليهود العراقيين حيث برعوا في المجال الموسيقي وإمتهنوا الحرفة الموسيقية ، بل كادت الحرفة آنذاك تقتصر عليهم حصرا.

* كانت المقامات حينذاك كثيرة، وحين نبحث عنها اليوم، نجد للأسف ان بعضها إنقرض، اما الإيقاعات التي إبتكرها يهود العراق، فقد كانت فريدة وحديثة ولم تعتد عليها الإذن من قبل، لكنهم عملوا على ترسيخها ونشرها، فأمست شائعة ومعروفة، لكن الكثير منها هاجر معهم الى بلاد المهجر، وعلى سبيل المثال منذ الخمسينات لحد الآن لم يقدم أي من الملحنين العراقيين على تلحين أغنية تعتمد على إيقاع "الجورجينا الثقيل" او إيقاع" السنكين سماعي".. ويكتفي قراء المقام في الغالب إعادة القديم الذي عمله الفنانون اليهود .

* تجدر الإشارة الى ان” الجورجينا الثقيل" يشكل إيقاع 90% من الأغاني العراقية القديمة، وهو عراقي بحت، إذ ليس هناك عازف عربي يتمكن من عزفه.. بل ان هناك من المطربين العراقيين يتجنبون الغناء وفقه لصعوبته الجمة .. ومن الأمثلة المشهورة عليه أغنية:" آنا من أكولن آه وأتذكر أيامي، روحي ترد وتغيب ...الخ".

* الكلمة في الأغنية العراقية لها دور كبير .. وخاصة القصائد الشعبية ( الريفية) ، حيث هناك أصناف تشتهر في مناطق معينة دون غيرها من مناطق العراق، ففي مناطق الجنوب تشتهر بالدارمي والأبوذية والزهيري ، هذه الألوان الشعرية التي تنتشر في الفرات الأوسط الى الفاو.. اما في المنطقة الغربية  فتعرف الوانا أخرى من بينها النايل والعتابة وغيرهما .. وهذه وتلك تتميز بالصورة الشعرية والتورية ، اما في العاصمة بغداد فأغنيتها تتميز بالكلام اليومي الحياتي وتفتقر الى الصور والتشبيهات ..لكن محادثاتنا وحوارنا والمحكية العراقية تقترب من الشعر او على حافته  ..مثال على ذلك الاغنية البغدادية تقول :" الهجر مو عادة غريبة منك ، ولا منك أصول" في حين نجد في الأغنية الريفية :" مثل كاغد وجاسه الماي قلبي".

حرث جديد يقدمه المقهى الثقافي العراقي في لندن، الذي إستقبلت عودته الى أماسي القاعات، من جمهور الجالية العراقية والعربية في لندن، بترحاب بالغ، تجلى في النقاشات التي أعقبت الأمسية، من بينها ما طرحه مواطن سعودي مبينا اعجابه بالثقافة العراقية.. وكان تقديم طاهر بركات لمحاضرته وغنائه وعزفه على الكمان (رغم صعوبته كعزف مرافق لأدائه المتميز لشتى الألوان العراقية)، كان تقديما متألقا.

عرض مقالات: