عباس شكاره

بعد حرق بيتنا، ارسل عمي (ابو عدنان) يخبرنا بأن ننتقل الى بيته، بعدما فاتحه ابنه الكبير الصحفي (عدنان البراك) بما جرى لنا و بأننا يجب ان ننتقل فوراً من الأعظمية بما خفّ حمله ريثما نجد بيتاً نستأجره. . كان بيت عمي يقع في الكرخ ـ قرب السفارة البريطانية القديمة، في محلة الكريمات، بعد ان انتقلوا من بيتهم في حي الزعيم ـ اسكان غربي بغداد (الحي العربي الان)، اثر حملة الأغتيالات والتهديدات بالقتل وحرق المنازل التي بدأها البعث و القوميون هناك، و طالت القوى الديمقراطية واليسارية و عوائلهم. .

و هكذا ذهبنا مع حقائبنا الى بيت عميّ الذي كانت تسكنه عائلته الكبيرة مع الجدة راجحة، و رغم اننا شكّلنا ضغطاً على البيت و العائلة بعددنا، لكننا كنا فرحين بإلتآمنا مع الوالد و بأننا نعيش معاً، رغم الضغوط و الحاجات المالية التي كانت تزداد بالنسبة لعائلة عميّ الكبيرة و بالنسبة لعائلتنا، مع انتقالنا المؤقت و مع مصاريف تصليحات الحروق و البحث و التهيئة لإستئجار بيت ننتقل اليه كبقية العوائل . .

كان سكنة محلة الكريمات ـ عقد البيجات خليط عراقي بغدادي مسالم جميل، سكنته عوائل مسلمة، و عوائل مسيحية حيث كانت شموع القداسات المسيحية تُشعل في الاماسي داخل البيوت النظيفة المعطّرة آنذاك، التي صرنا نزورها بعد ان تعرّفنا على الفتى الآثوري رمزي و ذهابنا بمعيّته الى بيوت اقاربه و العوائل المسيحية الصديقة لعائلته للتعرف على ابنائها و بناتها . . الذين كانوا يشجعونا على زيارتهم بعد ان عرفوا بقصتنا. .

و كانت اعداد العوائل الصابئية في المحلة واضحة بعاداتهم الاجتماعية التي لاتفرّقها عن عادات العوائل المسلمة، اضافة الى عدد من العوائل اليهودية التي كنّا نميّز بيوتها من رائحة زيت السمسم الذي يطبخون به طعامهم . . كان غالبية سكنة المحلة اصحاب مصالح خاصة و مهن، و مصالحهم ودكاكينهم قرب سكنهم، و كانت الأُلفة بينهم هي السائدة مهما كانت دياناتهم التي لم تشكّل حاجزاً او مانعاً في التعامل، بقدر ماشكّلت طريقة للتعارف و للاحترام المتبادل و معرفة الحقوق و الواجبات الانسانية بينهم، و تعزز حياتهم كجيران يتطاعمون و يسرهم التذاذ الجار بما يطبخون على طريقتهم و بما يُعدوّن في مناسباتهم . .

و كان من البارز ان طالبات و طلاب المحلة كان يساعد احدهم الآخر في التهيئة للامتحانات للنجاح و التفوّق و كانت بنات عميّ يدرسن مع صديقاتهن في بيوتهن و خاصة مع عدد من الطالبات الصابئيات المتفوقات دراسياً. . و في مرّة و كفتيان من كل مكوّنات المحلة قد دُعينا الى حفل زفاف لإبنة عائلة مسيحية هناك و شارك جميع الحضور بالغناء و الدبكات و الردّات، و بالاغاني و الترانيم المتنوعة على تنوّع الاديان و القوميات و بلغات الطوائف الاصلية ذاتها. . 

و كنت على عادتي في رغبتي للتعرف على المكان الجديد او الغريب، بالطواف في المحلة للتعرف عليها و على المحلات المجاورة، و كنت استأجر درّاجة من البايسكلجي هناك، و عرفت ان الطريق المواجه لمدخل بناية السفارة البريطانية القديمة يمرّ داخل محلة الكريمات (و هو الطريق الذي انقطع اثر بناية عمارات و شقّ شارع حيفا اثر توسعة شارع المستنصر) و يصل الطريق الى مقابل منتزه مغلق مهمل لينعطف يميناً و يستمر الى ان ينفتح على منطقة علاوي الحلة ـ سينما بغداد (سينما قدري الاضروملي)، و عرفت بأن الطريق المقابل لذلك المنتزه المغلق يسكنه اصحاب جاموس و يمكن الحصول منهم على قيمر ممتاز بسعر متهاود . .

و فيما كنّا كلما رأينا قطعة من اثاث او سجّاد و لوحات فنية، ستائر و اغطية جميلة او راديو او تلفزيون فاخر في بيت . . . كان الحديث يجري على انها مما حصلوا عليه من نهب السفارة البريطانية التي كانت هي الحاكمة و السارقة الفعلية الاكبر للبلاد آنذاك، و التي هزمتها ثورة 14 تموز 1959، و انهم بذلك قد استطاعوا استرداد و لو جزءٍ ضئيلٍ من اموالهم . . رغم ان رجال السفارة كانوا مستمرين في نشاطاتهم لإجهاض و اسقاط الثورة و كانوا هم الداعمين و الممولين لأنواع العصابات التي مرّ ذكرها مهما ادّعت تلك العصابات و مهما حملت من شعارات جديدة . .

كانت الاحاديث تدور عن الشاب الجرئ (عباس شكاره) او (عباس ابن شكاره)، الذي استطاع هو و عدد من فتوة احياء الكريمات و الشواكة بجرأتهم من صدّ هجومات افراد عصابات الكرخ القديمة : من الجعيفر و سوق الجديد و التكارتة . . على المعلمين الديمقراطيين، حيث كان اولئك الافراد يمنعون و يضربون من يأتي لإنتخابات المعلمين و اسمه مُدوّن على قوائم اسماء الديمقراطيين و اليساريين الممنوعين بقرار تلك العصابات، من الانتخابات التي كانت تُجرى في ثانوية الكرخ للبنين، و التي كانت مقراً علنياً للقوى القومية و البعثية، مقراً محروساً بتلك العصابات. .

اضافة الى مقرهم (فندق بور سعيد) المطل على ساحة الشهداء، والذي كان مقراً غير معلن لأشكال المجاميع المسلحة التي قامت باعمال الإغتيال وحرق المنازل والمصالح الصغيرة و الكبيرة العائدة لعدد من العوائل الديمقراطية واليسارية في مناطق جهة الكرخ الاخرى والشواكة، و هو الفندق الذي منه انطلقت رشقات رشاشات بور سعيد التي وجهت للمتظاهرين الديمقراطيين ومسيراتهم و تسببت بسقوط شهداء و جرحى و جريحات، سواءً في عيد الأول من ايار او في مظاهرة (السلم في كردستان) كما سيأتي، و في مسيرات تجمعات المعلمين الديمقراطيين الداعين الى انتخاب (القائمة المهنية الموحدة) للمعلمين . 

و قال رفاق عباس شكاره، ان عباس بقي يستفسر لمدة طويلة، عن لماذا لاتحمي قوات الشرطة المتواجدة المتظاهرين من هجوم تلك العصابات و لماذا لا يلقون القبض على افرادها؟ ثم من اين حصل افرادها على الاسلحة المتنوعة و من يجهّزهم بالمال و السلاح؟؟ حتى تجمعّت لديه معلومات هامة و ذات دلالات كبيرة، قرر ان يحصرها بجماعته كي لا تفسد خططه لمواجهة تلك العصابات . . أخبره احد نشطاء معاونية شرطة الصالحية:

ـ عزيزي عباس، الاوامر و التوضيحات المستمرة و المكررة، التي تأتينا من فوق عن المظاهرات، بأن من يقوم بها هم رجال عطّاله بطّاله يحرّكوهم عملاء من موسكو و يدفعون لهم بالروبل الروسي، و اكثرهم سرسرية و دايحين بالشوارع، سكيّرين و مايخافون من ربّ العالمين. . امّا عن النساء اللواتي يشتركون معهم في المظاهرات، فأولاً المرأة (ناقصة عقل و دين) و ثانياً اغلبهن امّا مطلقات او عانسات محمّرات مخططات يدوّرون على رجال فيتحشّكون بيهم بروائحهن العطرية و محاولة احتضانهم او السقوط عليهم (يبحثن عن رجال بإثارتهم بعطورهن و بالاحتكاك الجسمي معهم) . . لذلك احنا ما يشرّفنا ان ندافع عنهم؟؟!!

اضافة الى معلومات كانت تتوارد اليه، بأن السفارة لاتزال نشيطة و لها وكلائها و عملائها، و ان هناك زوّار دائميون للسفارة بصفة خدم او عمّال حدائق او عمّال تصليحات، يدخلون و يخرجون منها ليلاً عبر باب صغير جانبي يدعوه (باب الخدم)، و يقع على الساحة الجانبية الواسعة الخالية من المارّة و المليئة بالاشجار، و هي مجاورة لـ (القسم البلدي السابع) . .

و اضافت المعلومات، ان جماعته استطاعوا تشخيص احدى الزائرات و كانت قوادة معروفة في المنطقة، لديها بيت في الجهة المقابلة للاذاعة و استطاعوا التوصل الى دورها و دور المشتغلات عندها و علاقاتهن القوية مع فندق بور سعيد الآنف الذكر . .

اضافة الى ملاحظتهم تاجر من اهالي الصالحية، كان بعدما يخرج من السفارة عن طريق ذلك الباب، كان يلتقي في مقهى هناك بكبار من افراد تلك العصابات و يسلّمهم اموالاً عرفوا لاحقاً بانها من السفارة التي كانت تصرف عليهم بالدولار كخرجية و مصرف جيب اضافة لتغطية مصروفات اكبر، و قد نشرت عن ذلك حينها صحف بيروتية أُغلقت بعد نشرها ذلك الخبر و كانت قد اسمت ذلك التاجر (لطيف) او (عبد اللطيف)، الاّ ان تلك الاخبار أُعلنت بتفاصيل بعد عدة سنوات (قيل انها نُشرت اثر الهبة الشعبية التي اجتاحت الشارع اثر خسارة حرب 5 حزيران 1967)، ثم اعلن عنها الطلبة الإيرانيون اليساريون ايام الثورة الإيرانية حين وجدوها ضمن وثائق السفارة الإيرانية في الولايات المتحدة عند احتلالهم لها في شتاء 1979  .

و بين تقليب عباس شتى الافكار في ذهنه و بين مناقشة ذلك مع جماعته مع دلائل اخرى . . توصّلوا الى ان تلك الإعتداءات المتنوعة على الديمقراطيين و اليساريين، مصدرها واحد هو الذي يقوم بنشر تلك الاشاعات القذرة بحق المتظاهرين و المتظاهرات و غير ذلك من اوامر ضباط كبار مرتشين في سلك الشرطة، لجعل رجال الشرطة غير فاعلين او لدفعهم لضرب المتظاهرين و ليس لضرب المعتدين على المتظاهرين. . و يقوم ذلك المصدر ذاته بتمويل و تسليح تلك العصابات و عصابات البعث و القوميين. .

فكانت مبادرة مذهلة ان هاجم (عباس شكاره) و رفيقه بمسدساتهما و جماعتهما بخناجرهم و عصيهم، هاجموا فندق بورسعيد بعد ان انطلقت منه اول الرصاصات على تجمعات المعلمين التقدميين و الديمقراطيين في يوم انتخابات المعلمين، و اسكتوا من اسكتوا فيه و هرب من هرب منهم، و حصلوا على اسلحتهم التي تركوها بعد هروبهم. .

في وقت كان الناس يتحدّثون فيه عن الضرورة القصوى لوجود من يقوم بالدور الجرئ الذي قام به البطل (ابو الهوب) الذي افتقدوه و الذي لعب مقتله بتلك الطريقة الإجرامية الجبانة و غيابه، لعب دوراً كبيراً في تصعيد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض في محلات السكن و الاسواق و في اماكن العمل، (رغم تهدئات الحزب الشيوعي بضرورة اللجوء الى المحاكم و القانون في وقت كانت فيه المحاكم و القوانين مشلولة) . .

و كان ذلك تأكيداً آخر على ان مقتل (ابو الهوب) غدراً قد حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس و عن محلات السكن او ثأراً للشهيد ابو الهوب، و مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك، في وقت كان فيه القضاء عاجزاً عن مواجهة و معاقبة المعتدين. . و كان (عباس شكاره) احد مساعدي ابو الهوب في جانب الكرخ، و كان يعتبر ان عدم مواجهة تلك العصابات و اسكاتها، يعني فسح المجال لها للتغوّل و للاطاحة بثورة 14 تموز و ما بما حققته من منجزات للفقراء و لعموم المجتمع بكل مكوّناته. .

و قام عباس شكاره بالدور ذاته و ان بشكل آخر في حماية و انقاذ المشاركين في تظاهرة (السلم في كردستان) التمويهية التي نظّمها الحزب الشيوعي. . حين قرر الحزب القيام بمظاهرة كبيرة حاشدة ما امكن للمطالبة بإيقاف الحرب و ايقاف قصف قرى كردستان الآهلة بالسكّان و ان تُحقق تجمّعاً لأكبر ما ممكن من كل العراقيين و اهل بغداد خاصة، بكل مكوناتهم و طوائفهم القومية و الدينية و الإثنية، و ان لاتتمكن قوات الشرطة من ايقافها، حتى اكمال سيرها من ساحة النهضة في شارع الكفاح الى ساحة التحرير. .

فقرر ان تكون هناك مظاهرة تمويهية تنطلق بنفس الساعة من اليوم المحدد، و ان تنطلق من ساحة المتحف في الكرخ و تسير نحو ساحة الشهداء لإلهاء رجال الشرطة و ليجري تقرير اين ستتوقّف بعدئذ او تلتحق بالمظاهرة الأصلية، و حشّد في المظاهرة التمويهية تلك عدداً من وجوهه المعروفة نساءً و رجالاً. .

فانطلقت المظاهرة الاصلية من ساحة النهضة بعد ان جمع منظموها اعداداً كبيرة من العصي لمواجهة رجال الشرطة ان هاجموها، و فعلاً واجهت اعداداً كبيرة من رجال الشرطة الذين بقوا مشلولين رغم اسلحتهم امام عصي المتظاهرين الذين اشتبكوا معهم رغم سقوط عدد منهم جرحى، و استمرت المظاهرة الى هدفها المقرر في ساحة التحرير، مشكّلة بذلك ثاني اكبر تظاهرة جماهيرية في تاريخ العراق القريب بعد مظاهرة الاول من ايار 1959 .

عند عودة عباس شكاره الى الصالحية و كان فرحاً بما حققته مظاهرة (السلم في كردستان) الاصلية . . تفاجأ مفاجأة كبيرة بخبر تفريق المظاهرة التمويهية و ذلك في ساحة (سينما بغداد) اثناء سيرها، بمهاجمتها من قبل رجال الشرطة و رجال عصابات البعث بالرصاص و بالعصي و سقوط عدد من الجرحى و سوق ما قارب الثلاثين من المتظاهرين كان عدد منهم من الجرحى رجالاً و نساءً مخفورين . . حيث سيقوا الى موقف مركز شرطة الشواكة!!

فقرر هو و جماعته في الحال تطويق المركز و تهديد من فيه ان لم يطلقوا سراح الموقوفين و الموقوفات، و ان تطلّب الأمر مهاجمة المركز خاصة و انهم يعرفون المركز و مرافقه و الدور الشرقية المحيطة و الملاصقة به و يعرفون سكنتها جيداً . . بانهم شجعان و اصدقاء مخلصون. .

وصلت المجموعة الى باب مركز الشرطة من الجهتين و صاح عباس بالحرس :

ـ السلام عليكم . . ابني آني عباس شكاره . . اخبر المفوض كاظم، اريد اتكلّم معاه هنا بالباب حتى يطلق سراح الاخوات و الاخوة المناضلين اللي وقّفتوهم ظُلماً و عدواناً و فيهم جرحى . .

اجابه الحرس و كان وجهه يزداد اصفراراً و هو يشاهد عباس شكاره بلحمه و شحمه لأول مرة . . عباس الذي سمع الكثير من مآثره و مناقبه في الدفاع عن الفقراء و عوائلهم و حمايتهم و مساعداته لهم، و ذاع صيته و هيبته و شجاعته و كرهه للظلم . . في محلات و حواري الكريمات و الشواكة و الصالحية و الشاكرية المترامية الاطراف، في الكرخ و كرادة مريم . . اجابه و هو يحاول استجماع  نفسه و يقاوم شعور الرهبة الذي اجتاحه في مواجهة الهيبة الطاهرة و الروح الانسانية :

ـ عليكم السلام سيّــ . .

ـ تحرّك ولك . . اشو صافن ؟؟ . . . تحرّك !!!

و اطلق عباس رصاصة في الهواء بمسدسه لكسر انجماد الحرس الذي تصوّره رافضاً لما طلبه منه،

ركض الحارس و رفيقه ببنادقهما الى الداخل و اختفيا تنفيذاً لأمر المفوض . . و خرج الموقوفون و الموقوفات الى باب المركز و المفوض الخفر يصيح من الداخل :

ـ عميّ كلهم افراج !! افراج !!

ـ و الله اكسّر رؤوسكم اذا ماديّن ايديكم عليهم . .

ـ لا و الله استاذ !! . . احنا استلمناهم فقط و كُنّا نعرف انهم ابرياء، بس اتوا بهم مقبوض عليهم . . حتى قدّمنا لهم طعام، اسألوهم . .

. . . .

في يوم من تلك الايام اخبر عدنان ابن عميّ، والدي بأن ممثل عن مكتب الاتحاد العام لنقابات العمال في الصالحية، اخبره بوجود بيت للإيجار في محلة الشواكة، و ان البيت قديم و يحتاج تصليحات لذلك فإنكم ستدفعون نصف الإيجار و (اذا عجبكم البيت نعمل عقد الإيجار منذ الآن و بكفالة ممثل مكتب اتحاد نقابات العمال) . . و بعد معرفة الوالد كم هو نصف الإيجار و انه و الوالدة ممكن قادرون على دفعه، و بعد مناقشة الوالدة، وافق على البيت بزيارة سريعة اليه و معرفته من هم الجيران و خاصة عائلة نيازي الساكنة هناك و ابنها الكبير النشيط في مجال المعلمين الديمقراطيين . . و هو متصور ان ذلك الحال مؤقت في كلّ الأحوال . .

و فيما فرح والدي بأنه سيستطيع التخفيف عن اخيه و عائلته الكبيرة . . كانت الوالدة حزينة لأن صبرها على فراق بيتها يبدو انه صار دائمياً، بعد ان اعتقدت انهم انتقلوا مؤقتاً و حتماً سيعودون الى محلة الشيوخ . . كان الأنتقال يحمل اكثر من معنى واكثر من صعوبة لها، حيث سننتقل من بيت كان على صغره يكفينا، وكان مُلكاً لوالدتي دون دفع ايجارات مكلفة، في محلة شكّلت مرابع طفولتنا واهلنا واقاربنا وجيران عمرنا، الى محلة مجهولة وناس جدد لانعرف عنهم شيئاً . .

والأصعب كان يعني صعوبات ستتحملها الوالدة لوحدها و عندها طفلة بعمر السنتين لاتعرف اين ستتركها في اوقات دوامها، و هي بلا أمها (جدتنا) و بلا اخوات و اقارب و جيران عمر، و كان عليها ان تنتقل كمعلمة من مدرستها الأصلية (مدرسة الشفق الأبتدائية للبنات) في الصليخ ـ الكريعات، حيث كنّ معلماتها و المديرة، زميلاتها وصديقات عمرها . . الى مدرسة مجهول اهلها، كما كانت تفكّر و تزداد حزناً، ناسية او غير مصدّقة بأنها أُجبرت على ترك بيتها بالحرق . . او ان تبقى في مدرستها التي صارت في الطرف الآخر من العاصمة، و التي سيكون الوصول اليها صعباً يومياً خاصة في الشتاء بين المشي و ركوب باصات المصلحة، هي و معها طفلة طالبة في المدرسة، بعد ان كان باص مدرستها الخشبي ينقلهما من بيتها الى المدرسة و يعود بهما . .

و بمساعدة برهوم و محمد ابني الخالة فائقة، تم استئجار شاحنة صغيرة لنقل ما تبقىّ و لم يحترق من اثاث البيت، بعد ان بذل محمد جهداً في اختيار السائق خوفاً من سرقة الأغراض او اعتراض السيارة من قبل جماعة الساطور للمزيد من الإيذاء . . حتى وجد سائقاً من دراويش الشيخ فخري الذي سيكون حريصاً على سلامة ابنة الشيخ . .

وقفت شاحنة نقل اثاث البيت الصغيرة بمحاذاة رصيف شارع الشواكة المزدحم بالسوق و الناس وفي مدخل المحلة المعروفة، وتساءلنا انا و محمود عن موقع البيت من البقالين، عارضين عليهم ورقة العنوان . . وبعد نقاشات اكثر من بقال، توصّل الجميع ان افضل مكان تقف فيه الشاحنة لنقل الأثاث منها باليد الى البيت ليس عبر السوق، لأن الزقاق لايكفي لدخول سيارة، وانما على السيارة ان تدخل فرع (مطعم مهدي الكبابجي) الشهير و هو الفرع المحاذي لسياج السفارة البريطانية هناك، و بعد اكمال الفرع تصل الشاحنة الصغيرة الى حيث بيت الوجيه البغدادي (الدفتردار) ومن هناك يمكن تقدير اين ستقف الشاحنة، ليتم حمل الأغراض الى البيت باليد . . وفعلاً ذلك ماتم .

كانت المنطقة من مناطق بغداد القديمة التي يسكنها بغداديون من عوائل مسلمة و مسيحية و صابئية، اشتهر فيها (كباب اسطة مهدي) الدائم العمل ليلاً و نهاراً لكثرة و تواصل الطلب عليه و فيما عرف اسطة مهدي بمهارته في عمل الكباب باسعار مقبولة، عرف عنه انه كان من (انصار السلام) و ان القوميين المتطرفين اغتالوا ابنه الشاب قبل سنتين للانتقام من والده. .

وكان الجديد في سوق الشواكة هو سوق السمك الجديد في عمارة من طابقين و كان جاذباً لأنواع المشترين لأنواع السمك المرغوبة و الطازجة و باسعار معتدلة. . وصلنا الى البيت و نحن ننقل الاغراض من الشاحنة اليه، كان بيتاً قديماً كبيراً فيه سبع غرف و صالة منخفضة شبه سرداب، و يقع مقابل خرابة مغلقة تعود الى بيت المولى هناك، قيل انها كانت خان تجاري قبل عشرات السنين . .

و كان منظر النهر (الشط) في ذلك الصيف جميلاً فعلاً . . من الطريق الاسمنتي القديم للمشاة، المرتفع و الممتد بمحاذاة النهر الى  رأس جسر الشهداء، الى و نحن نراقب الزوارق النهرية ذات المجاذيف (البلام) و هي رائحة غادية من جرف الشواكة نحو جرف عمارة الدفتردار ومقهى زناد وشارع النهر في الرصافة لتعود . . مشكّلة وسيلة نقل ثابتة بين نقطتي الجرفين تلك عند حائط (بيت الوتّار) المطل على النهر مباشرة، الذي كان مخطوطاً عليه من زمن الملكية ( اطلقوا سراح المناضل الوطني زكي خيري) . .

وبين فرحنا و ضجيجنا و نحن نشاهد النهر في شمس ذلك الصيف و نحن نعيش حلماً باننا سنسكن في بيت يطّل تقريباً على النهر و لو عبر ساحة فارهة . . كنا نحن الفتيان فرحين لأننا نرى لأول مرة اننا بمواجهة قلب بغداد عبر النهر، قلب بغداد بعماراته العالية و خاصة عمارة الدفتردار المطلة بواجهتها على النهر من جهة الرصافة، وحيث تنتصب عمارة مصرف الرافدين الأعلى خلفها، التي كانت اعلى عمارة في العراق. .

لاحظنا قلق الوالد وهو يشاهد الأم وهي تقف في مدخل المجاز صامتة و دموعها تجري بغزارة، مقابل مهد لرضيع لم يزل فراشه الصغير هناك و حوائجه معلقة على طرفيه، وقفت وكأنها اصيبت بالتجمّد . . لقد رفضت ان تسكن هناك بعد رؤيتها لذلك المهد، وقالت و العبرات تخنقها و وسط تلك الدموع الغزيرة و بلهجة خافتة حزينة:

ـ ابو مفيد. . هذوله مثلنا. . ايضاً عائلة شُرّدت بالقوة و تركت منزلها وبأثاثه!

ولم تمد ايديها على اغراض بيتنا المنقولة من الأعظمية ولم تجلس على بقايا الأثاث الموجود في البيت، رغم توسلات الوالد بان الموضوع مؤقت، وسنحافظ على اغراض البيت المتبقية ونرجع الى بيتنا في الأعظمية عندما تستقر الأمور. . في وقت جاء فيه رجل بعد ان طرق الباب المفتوح، بملابس نظيفة لصيادي السمك، و بغترة ملفوفة على رأسه و كان يحتذي حذاء نعل لامع نظيف . . و بعد الإستئذان بالدخول، نظر الرجل الاسمر الوسيم الينا نحن الفتيان مربتاً على اكتافنا، و سلّم على الجميع، وقدّم نفسه للوالدة قائلاً:

ـ حجية. . اني عباس ابن شكارة عن نقابات العمال الذين ارسلوني للترحيب بكم، اهلاً بيكم واذا احتاجيتوا اي شئ انا حاضر وموجود بين يوم و آخر على الشريعة (طريق المشاة الاسمنتي) اوقات الغروب والناس هنا تعرفني. . احنا هنا حجية نحميكم من اي تصرف او سلوك قد يضرّ بكم!

ويظهر انه كان على دراية بموقف الوالدة الرافض، فقال ابن شكارة:

ـ حجية هذول لايمكن مقارنتهم بكم و بأخلاقكم و تربيتكم. . حجية هذول عائلة مجرم قاتل كان يملك نصف المحلة و اعطى اوامر برمي المتظاهرين بالرصاص و حرق و نهب محلات تجارية و مُسجّلة ضده عدة دعاوي قضائية. . كان تارك زوجته و بيته و عايش مع عشيقته في فندق بور سعيد، و بعد ان اشتكت عليه زوجته لأنه لا يرسل لها مصرف للعائلة، اخبرها بأن تترك البيت و الاغراض اللي فيه لأنها زبالة و سينشغل بها المستأجر الجديد، و احنا ساعدنا عائلته على الانتقال من المحلة بعد جاءت دخيلة عندنا. .

انتبهت الوالدة الى صدق كلامه و هو يقول:

ـ حجية حضرتج ماتفكرين بحقّك و بحق عائلتكم؟!! يعني يشرّدون عوائلنا وعوائلنا تهرب راضية بمصيرها لأنها تدعو الى احقاق الحق. . بالله عليكي اين الظلم؟ الا تفكرين من هو الظالم الأصلي؟ و انت الدارسة المتعلمة و من بيت محترم . . اشلون لعد تستطيعين تحصلين على حقوقك؟؟ مو حرقوا بيتكم !!

    مجرمون و سياسيون

كان صاحب البيت احد الشركاء او الشريك الأكبر في " فندق بور سعيد " المطل على ساحة الشهداء، والذي كان مقراً غير معلناً لأشكال المجاميع المسلحة التي قامت باعمال الأغتيال وحرق المنازل والمصالح العائدة لعدد من العوائل الديمقراطية واليسارية في مناطق الكرخ والشواكة، والذي منه انطلقت رشقات رشاشات بور سعيد التي وجهت للمتظاهرين الديمقراطيين ومسيراتهم، كما مرّ . . و تمّ ترتيب عقد الأيجار مع المالك الذي كان يسكن في ذلك الفندق، بواسطة مختار المحلة. 

زارنا من الجيران من عائلة نيازي استاذ جميل ان لم اخطأ اسمه، سلّم على الجميع و على الوالد الذي تفاجأ به و تذكّره بكونه من عائلة نيازي التقدمية المعروفة القادمة من الناصرية، و اخو الشاعر و الاديب المعروف صلاح نيازي، و قال بانه و والدته و اخوانه حاضرون لتلبية اية احتياجات قد تحتاجوها و ان والدته ستزورنا في اليوم التالي، و توجّه مع الوالد الى بيت العازف و الملحن الكردي المعروف (أحمد الخليل) الساكن في البيت الواقع في نهاية الزقاق الضيق الذي يمرّ جنب البيت، الذي كنّا نسمع انغام عوده و لم نعرف من اين تأتي  . .

اضطررنا لفرش ما امكن من البيت و خاصة لإستقبال الضيوف، ببقايا أثاثنا حيث لم يبقَ لدينا في ذلك الوقت اثاث يكفي لتأثيث سبع غرف و صالة في ذلك البيت الكبير القديم . . و جاءنا اول غداء من الجيران من عائلة النجار، حمله الينا ابنهم عزّت و اصدقاؤه . .

عرّفنا الشاب الصغير عزّت على البيت ومرافقه بعد ان سكنته عائلة عمّه لبضعة شهور مضت و انتقلت منه لعدم صلاحيته للسكن . . و حذّرنا بضرورة الإنتباه من الجرذان التي تأتي من الشط الى البيت عبر فتحة المرافق (المرحاض) لكونها وحشية و قد تهاجم. . و نبّهنا الى ان التأسيسات الكهربائية للبيت قديمة و تتسبب بتسريب الكهرباء وقت الأمطار و تتسبب بلسعات كهربائية قوية (شبه صعقات) للماشي على الدرج الداخلي و للداخل الى المرحاض ان كان يحتذي حذاء رطب، و ضروري جداً اطفاء الكهرباء عند المطر، و اكّد على ضرورة شراء اللايتات (جمع لايت) ذات البطاريات لإستخدامها عند اطفاء الكهرباء وقتذاك!!

استطعنا بما بقى لدينا من اثاث، فرش غرفتين للنوم في الطابق العلوي، بعد فرش الصالة المنخفضة التي تشبه السرداب حيث وضعنا التلفزيون، و غرفة الخطار ببقايا آثاثها، اضافة الى الطارمة المسقوفة المطلة على ساحة البيت الداخلية. . و بقيت ثلاث غرف في الطابق العلوي فارغة تماماً . .

في اليوم التالي زارتنا ام صلاح نيازي و رحّبت بنا و قالت ( اهلاً و سهلاً بكم . . غدائكم حاضر و المعذرة عن التقصير، يستطيع الفتيان حمله لأني اليوم وحدي في البيت) . . و في اجواء فرحنا باحتضان الجيران الجدد لنا و اهتمامهم بنا، ذهبنا انا و كريم و مفيد لحمل صحون الطعام الذي كان عبارة عن شوربة خضروات و بقول بلحم بقر مقلي اضافة الى الخبز و طرشي البيت . . و هي الشوربة الشهيرة بإسم (شوربة زين العابدين) . .

و استلمنا في ذلك اليوم زير (بستوكه) طرشي من عائلة الطرشجي كتحية استقبال و مودة . . و زارنا في يوم تالي صبي مؤدب قال انه من بيت جيراننا المطلّ على النهر مباشرة، و انهم من عائلة الوتّار البغدادية المعروفة، و اخبرنا بأن غدائنا في الغد سيجلبوه هو و والدته و اخته . . و فعلاً حملوا لنا الغداء الذي اعدوّه و كان تشريب الباقلاء بالخبز و المكلل بالبيض المقلي و معه النومي حامض الطازج المُنَظّف و المرتّب بقشوره الذي صارت والدته ام عطور ترسله الينا بين جمعة و اخرى في اغلب ايام الجمع، و عرّفتنا على نفسها بكونها ابنة خالة (مآرب) صديقة الخالة سعيدة في الجامعة و انها عرفت من نكون و ابنة من تكون اميّ، و انها عرفت بألم ما حصل لنا، رغم انها ليست سياسية و لا منحازة لأحد و كانت حزينة على مقتل الملك الشاب فيصل الثاني . .

لم ننتبه نحن الفتيان للحديث عن الجرذان و تسريب الكهرباء، بقدر فرحنا و اهتمامنا بأننا صرنا نعيش في قلب بغداد و قريبين على اماكنها المحببة لنا آنذاك . . كنّا نعبر جسر الشهداء مشياً لنصل الى سوق السراي و سوق الاقمشة و سوق دانيال الشهير ببيع انواع الدانتيلا و الازرار (الدكم) التي كانت تحتاجها الوالدة في خياطة ملابسنا على ماكنتها سنجر . .

من جهة اخرى بأن بإمكاننا عبور جسر الأحرار مشياً من محلة الكريمات المجاورة  و مرورنا بسينما (ريجنت) التي سُميّت بسينما الجمهورية التي كانت تقابل (ملهى ليالي الصفا) . . بعبورنا الجسر مشياً حين كنا نصل بذلك الى شارع الرشيد حيث السينمات الشهيرة، من سينما الوطني الى سينمات روكسي و ريكس و سينما الخيام في الباب الشرقي. . و الى محلة السنك المعروفة.

في العصاري و الأمسيات كان الناس في محلة الشوّاكة يتجمعون على طريق المشاة الإسمنتي القديم الموازي و المطل على النهر بمجاميع مجاميع يستمتعون بنسمات الهواء العليل الهابّة من جهة الشاطئ، و هم يتبادلون شتىّ الأحاديث و خاصة ماكان يدور من اوضاع في البلاد و في المحلة، و كنّا معهم . . هناك قدّمني عزت النجار الى الأستاذ (ابو التمن) الذي كان معلماً في مدرسة الكرخ النموذجية و كان يعمل في اوقات محددة في (شركة سفريات ابو التمن) الواقعة في ساحة الوثبة التي كان يصلها جسر الأحرار بعبوره للنهر. . و كانت الشركة الاولى آنذاك لنقل المسافرين بباصات مكيّفة بين بغداد و دمشق و عمّان. .

كانت احاديث الأستاذ ابو التمن ممتعة و هي متنوعة عن بغداد و عن بلاد الشام من جهة، و عن محلات و حواري بغداد و عن ما كان يجري في البلاد من جهة اخرى، و كان يرسل تحياته لأبي الذي كان يعرفه و يشجعنا على سماع اخباره و آرائه و كان يردّ على تحياته بأجمل منها. و لمّا عرف الاستاذ ابو التمن بهوايتي في جمع الطوابع، اهداني البوم كامل للطوابع العراقية في زمن الملك فيصل الاول و غازي و فيصل الثاني، و التي كانت مجاميع غالية مرتّبة على هيئة سيتات طوابع، قال عنها انها ستكون من اغلى الطوابع العراقية بعد سنوات . .

و تعرّفت على الفتى (منير) الذي كان اهله جيران بيت عميّ في الكريمات، و كان يزور بيت خاله الكبير في الشواكة بشكل شبه يومي، و كانت تدور بيننا شتى الأحاديث عن الكريمات و الإذاعة و الشواكة و عن ملهى ليالي الصفا الصيفية المارة الذكر التي قال انها تقدّم راقصات شبه عاريات يرقصن على مسرحها، و كان ذلك يثير رغبة كبيرة فينا في كيفية مشاهدتهن، و هل ان ذلك الخبر صحيحاً في وقت  كنّا نخجل فيه من السؤال حوله . . الاّ انه بقي في اذهاننا و مناقشاتنا.

ذات يوم اخبرني منير ان خاله اجريت له عملية جراحية في العيون و هو نزيل في مستشفى الرمد او التابع لمستشفى الرمد في البناية الداخلية المطلّة من جانبها على حدائق ملهى ليالي الصفا و يمكن المرء من بلكونات غرف المرضى التفرج على العروض، و ان احسن شئ هو ان نزوره خلال رقوده حاملين اليه ماتعدّه ام منير من اطعمة كان يسأل عنها و يطلبها و ان نحاول الجلوس في البلكون هناك و التفرّج على الحدائق و العروض، و اننا نستطيع البقاء عنده الى وقت لابأس به من الليل، لأن المستشفى او ذلك الجناح الراقد فيه كان اهليّاً . .

كان ذلك في فترة انتشرت فيها مطالبات المرضى و اطباء المستشفى بضرورة بناء مستشفى جديد للعيون في مكان يؤمن الهدوء للمرضى و للاطباء . . بسبب شكاوي المرضى من عدم قدرتهم على النوم بسبب اصوات الغناء و الموسيقى العالية المنبعثة من الملهى الصيفي المجاور، و بسبب شكاوي الاطباء من تفتّق جروح عمليات عيون المرضى اثر انفعالاتهم و هياجهم و ارتفاع ضغط الدم و العيون اثناء مشاهداتهم فعاليات ملهى ليالي الصفا من شرفات بلكوناتهم . . 

بعد يوم او يومين، ذهبنا انا و منير حاملين معنا قالب كيك و معجنات، الى خاله الذي كان اصغر خال، و بعد السلام و انواع الكلام، اخبرناه بماذا سمعنا عن الملهى و عن امكانية مشاهدة العروض من شرفة غرفته . . فرح الخال الشاب بما اخبرناه، لأنه سمع بذلك ايضاً و لكنه تصوّر ان الاطلالة على الملهى ممنوعة، و بعد مداولاتنا معه سأل معين الردهة الذي اجابه بأن لاشئ ممنوع و هو كمريض من حقّه ان يرفّه عن نفسه، خاصة و انه في جناح خاص يدفع ثمنه. .

و فيما بدأت الموسيقى و اصوات الطبلة تصدح في حدائق الملهى. . اطليّنا على الحدائق و على المسرح بالذات، فشاهدنا راقصتين ترقصان بملابس تشبه ملابس الرقص الشرقي و لكن كانت اكثر فاضحة كاشفة عن اجسامهن الرشيقة ذات الجاذبية. . كانتا ترقصان على انغام الأغنية اللبنانية الشهيرة آنذاك (يا ام الضفاير حلوِيْ و الجبين العالي. . مضْوِي جمالك مضْوِي. . مشعشع بالليالي. . )، حيث كان برنامج الاسبوع او ذلك الشهر برنامجاً لبنانياً . .

و بينما كنّا مشدودين للرقص و للراقصتين و الموسيقى و مشاهد الأغراء . . اقتحم المسرح رجلان كان احدهما شاهراً خنجراً و الآخر شاهراً مسدساً و حاولا سوق الراقصتين معهما و اختطافهما بالتهديد المباشر فيما كانتا تصرخان و تعيّطتان طالبتا العون و الخلاص بانواع آيات الاستعطاف . . و لكن لم يتحرّك احدٌ من المشاهدين الغارقين بالسكر و بانواع المكسّرات. .

الاّ اننا شاهدنا و نحن غير مصدّقين اعيننا . . شاهدنا عباس شكارة يدخل الحدائق و هو يصيح بصوت كالزئير:

ـ اتركوهن يا كلاب. . و الله هذوله بهالشكل من ظلم الدنيا و من الفقر. . هذوله اشرف منكم و من عمايلكم الدنيئة . . اتركوهن !!! و الله و بالله و تالله اذا ماتتركوهن اسويّكم مزق و انزّعكم لبسانكم و ربيّ كما خلقتني !!

 و بلحظات دخل عدد من شباب الكريمات قادمين من النادي الرياضي الصيفي القريب و المقام على جرف النهر بالحصران ( جرداغ) . . دخلوا كي لايتركوا عباس لوحده و كلٌ حمل شيئاً بيده، من عصا او قضيب معدني (شيش) او  او . . دخلوا كي لايتركوه وحيداً يقابل مجرمين بدا عليهم انهم كانوا محترفين و معروفين لأهالي الكريمات . .

و فيما ترك الرجلان الراقصتين، ارجعا اسلحتهما الى مخبئها في ملابسهما و خرجا . . وكنّا نحن نتساءل بيننا عن الشرطة و لماذا لم تحضر او حضرت و لكننا لم نراهم ؟؟ و هكذا انتهت تلك الأمسية و نحن نتناقش في امور اخرى بين السياسة و الاخلاق و بهما معاً . .  

بعد ايام و في تجمّع جمعنا انا و محمود و منير و الاستاذ ابو التمن و شوقي احد اقاربه الذي قال عنه الاستاذ بأنه كان مفوض شرطة في مركز شرطة الرحمانية المقابلة لسينما بغداد و انه اكمل بعدئذ كلية الشرطة و اصبح ضابط شرطة في الشرطة السيّارة . . و تحدّثت عما حدث في ملهى ليالي الصفا و لماذا لم تتدخل الشرطة ؟؟ قال شوقي :

ـ سمعت بالحادث و خلّصهن السبع عباس شكاره، عميّ هذوله الشرطة تخاف منهم . . هذوله مجرمين و قتلة !!

و واصل شوقي :

ـ هذوله اكيد من عصابة (علي ماما)، اللي اطّلعتْ و درستْ ملفّاتها المحفوظة في الشرطة . . و تبيّن ان هناك عصابات في بغداد تضم انواع القتلة و المجرمين و نزلاء السجون، اغلبهم من اولاد سِفاح (ابناء غير شرعيين) او من اولاد عوائل كان ربّ العائلة فيها مجرماً او نزيل سجون او اولاد من عوائل مفككة عادت لسكيّرين و عائشين على صالات القمار و سباق الخيل (الريسز) و في وقت لم يوجد في البلد دور او مؤسسات رعاية و ارشاد لمثل هؤلاء الاطفال و الأحداث، و تُركوا يواجهون مصيرهم . . فكان يستغلّهم و يشغّلهم عدد من الوزراء و اعضاء في مجلس النواب في العهد الملكي، كانوا يشغّلوهم كحمايات لهم و كتابعين للقيام بالاعمال القذرة و اللاقانونية بحق سياسيين او منافسين او متخاصمين على مصالح و املاك، اي القيام باعمال من قتل و سطو على منازل و دوائر حكومية و اغتصاب، و يقومون بالمقابل بصرف اموال لهم و بحمايتهم و بتهريبهم من السجون، او يتركوهم لحالهم عند بروز شقي اقوى جديد . .

و اضاف الاستاذ ابو التمن :

ـ كان هذا الاسلوب جارياً من قبل تأسيس الدولة العراقية، و اثر الحرب العالمية الاولى و سيطرة الانكليز على المنطقة و تأسيسهم للدولة العراقية بزعامة الملك فيصل الاول، حيث عمل مستشاريهم على تثبيت ذلك الاسلوب بنصحهم الإجرامي و توجيههم لرجال الدولة الموالين لهم و اذنابهم بإتباعه، لمواجهة المعارضة و اخماد الانتفاضات الشعبية التي نظّمها و اشعلها الأكثر ثورية و الواعون من الشعب، الذين حسبوهم او اطلقوا عليهم جميعاً بكونهم شيوعيين، رغم ان الشيوعيين كانوا من اكثر الناشطين فيها و استعدوّا ببذل الغالي و النفيس في سبيل الخبز و الحرية . .

ـ نعم، ما اردت ان اقوله ان اسلوب استخدام عصابات المجرمين في تحقيق الأهداف استمر به عدد غير قليل من الضباط و من ذوي نفوذ في المجتمع من اقطاعيين و اصحاب اراضي و تجّار كبار و كبار رجال دين سعوا الى الهيمنة و المال، و وصل الى استخدامه من قبل سياسيين من الاحزاب القومية و حزب البعث . . في وقت صار فيه عدد من الناشطين الكبار في اجهزة الدولة يستخدموه و خاصة من الكبار في دوائر الشرطة و الأمن و الإستخبارات العسكرية . .

ما اردت ان اقوله عن عصابة (علي ماما)، فإن الجانب الكبير من الأحداث والشواهد معروفة و موثقة بالاخص في منطقة الكرخ فسكان تلك المنطقة يعرفون ويتذكرون الحادثة الشهيرة للعصابة المعروفة في اوائل الخمسينات عندما اعتدوا بالهجوم والضرب بالسكاكين على احد ابناء العوائل الثرية ليلاً وقاموا بتسليبه عندما كان ماراً بالقرب من مدخل سينما (ريجنت) المقابلة لملهى ليالي الصفا و القريبة من مدخل جسرالاحرار في منطقة الصالحية في بغداد وسلبوا منه نقوده وساعته وخاتم زواجه وما معه من حوائج ثمينة . .

و هرع ناس من المنطقه لنجدته و اخبروا الشرطة في مركز الرحمانية و قامت الشرطة بالبحث عن الجناة و القت القبض عليهم في مقبرة الشيخ عمر و كانوا يتعاطون الكحول والمخدرات واشياء اخرى وعندها اصدر قاضي تحقيق الكرخ امر القبض والتوقيف بحقهم وثبت من التحقيق والتحري ان التهم الموجهة لهم هي عدة سرقات كبيرة حدثت في منطقة الرحمانية قرب سينما (زبيده) واعمال سلب ونهب في ساحة المتحف وفي منتزه المطار القديم المجاور للمحطة العالمية. وذكر تقرير الشرطة مع امر التوقيف من قاضي التحقيق لمنطقة الكرخ اسماء المجرمين و كان منهم كما اتذكّر :

علي ماما (رئيس العصابة)، طالب ابن ماهيه، خالد دونكي، حمودي الأقجم، قيس الجندي، صدام التكريتي (وكان اصغرهم) و كان ممن شاركوا مؤخراً بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، " و وصفه فؤاد الركابي امين سر حزب البعث آنذاك في كتابه الشهير (الحل الاوحد) الذي صدر بعد سنين بكونه شقي من تكريت و قال فيه : (اختاريناه هو و شقي آخر اسمه عبد الله لكوننا كنا بحاجة الى اشقياء لتطعيم مجموعة الاغتيال) " . . وحكمت محكمة الكرخ على هذه العصابة باحكام متفاوتة وكان الحكم على صدام بالسجن لمدة سنة لصغر سنه قضاها متنقلا بين سجن الاحداث وموقف مركز شرطة الرحمانية آنذاك.

و بذلك الصدد يكاد يجمع باحثون و اختصاصيون و اجتماعيون مستقلون على سعي حزب البعث آنذاك لضم عناصر اجرامية اليه لتنفيذ مخططاته التي بدأها بالإغتيالات و حرق المنازل و المصالح و مطاردة عوائل تعود لناشطين ديمقراطيين و يساريين و يضيفون الى انه، في فترة لاحقة خرج من السجن احد افراد عصابة علي ماما و ساعده الايمن وهو طالب ابن ماهيه ليلتقي مع صدام الذي صار اكثر خبرة من السابق في الاجرام والقتل والاغتصاب، و عملا على توسيع و زيادة نشاط العصابة بعد ضم عناصر جديدة اليها . .

وحدثت الحادثة الشهيرة اللااخلاقية في مسرح ملهى الفارابي الذي كانت تديره المطربة المشهورة في ذلك الزمن لميعة توفيق . . حيث تم اغتصاب المدعوة بدرية محمد وعلى مرأى الناس على المسرح وتم ضرب المدعو سلمان توفيق شقيق المطربة لميعة توفيق وقيّدوه على احد الكراسي وجردوه من سلاحه وقطعوا خط الهاتف بعد ان رفضوا قطع التذاكر للدخول! الاّ ان احد الحضور استطاع الهرب واخبر الشرطة في مركز البتاوين، واصدر قاضي تحقيق البتاوين امر القبض عليهم بعد التعرف على اسمائهم وهوياتهم من صاحبة الملهى وهم كل من:

طالب ابن ماهية، قيس الجندي، جبار الكردي، صدام التكريتي، محيي مرهون المتهم الاساسي باغتيال ابو الهوب، باسم المعيدي، محمد فاضل الخشالي (الملقب ابو زكية)

وهنا حدث تطور في عمل هذه العصابة، بتكوين علاقة مع المحامي فيصل حبيب الخيزران الذي علّق القضية، في وقت كان فيه المحامي الخيزران العضو القيادي في حزب البعث آنذاك يبحث لحزبه عن شقاوات من ذوي سطوة و افعال من خلال دوره كمحامي في الدفاع عن مجرمين و التعرّف عليهم و عمله على اطلاق سراحهم بأية طريقة، و على طريقة تكوين عصابات المافيا الايطالية . . لتتطوّر العصابة و تتواصل اعمالها الإجرامية و لتصبح ذات نفوذ وسطوة كبيرة، و لتصبح بعد ذلك منظمة ارهابية اسمها (حنين) وينظم اليها مجموعة جديدة من الشقاوات والمجرمين، برز منهم :

  1. ناظم كزار لازم (الملقب بساطور المنظمة)
  2. المرعب في عناصرها المجرم الملقب (ابو العورة)
  3. جبار محمد الكردي (الملقب جبار كردي واخوانه ستار وفتاح كردي)
  4. سعدون شاكر العزاوي
  5. وهاب كريم
  6. رزاق لفتة
  7. فاضل الشكرة
  8. محمد فاضل الخشالي
  9. محي مرهون، وهو أحد أبرز نجوم المسرحية الاجرامية التي عملتها المخابرات الصدامية في بداية السبعينات وقتلوا فيها من يريدون قتلهم سواء من معارضين او منافسين او مواطنين ابرياء اختيروا ليكونوا عبرة لآخرين. . المسرحية المعروفة بحوادث (ابو طبر) . .
  10. علي رضا باوه
  11. صدام التكريتي

و يضيفون الى ان منظمة (حنين) التي كان يتبجح صدام بانشائها لها تاريخ حافل بحوادث القتل و الإجرام والاغتصاب والاغتيال والسرقة والتجاوز على الحرمات و اعمال التعذيب في السجون لصالح من يدفع اكثر ممن كانوا يحكمون، وان عناصرها من اصحاب الشذوذ الجنسي وتربية الكراجات، و تسببوا بمقتل و تصفية المئات و ما رافقها من الغدر والبشاعة والارهاب الذي لم يكن له مثيل، حتى يصعب على من لم يشاهدها ان يصدقها. (يتبع)

 18 /5 /2022

 

عرض مقالات: