اعتمدت الولايات المتحدة الامريكية مستويين لتعبيد الطرق امام استراتيجياتها ، فعلى المستوى الداخلي ركزت على نظرية " هندسة الموافقة " وهي تهيئة البيئة الداخلية وتعبئة المواطن الأمريكي لتحمل أعباء السياسات الخارجية للولايات المتحدة الامريكية ، عبر فكرة ان الحرب لم تنته وان أمريكا تخوض حربا مستمرة من اجل قضية عادلة ونبيلة ، اذ عملت الماكنة الأيديولوجية الامريكية على خلق الشخصية الامريكية ذات " البعد الواحد" عبر تزييف الوعي وإقرار الوضع القائم ، وتجريد المواطن الأمريكي من معارضة النظام الرأسمالي واعتباره المجتمع الأمثل الذي لا بديل له ،  و تجعل المواطن عاجزا عن التطلع الى تغيير الواقع الراهن . وبهذا " تتحول الديمقراطية والتقنية والثورة المعلوماتية الى احدى وسائل الاستلاب والهيمنة وتزييف الوعي"، و " أداة لتكريس هيمنتها على المجتمع الرأسمالي " من جهة واداة لتبرير تدخلها السافر في شؤون بلدان الأطراف.

وعلى مستوى الخارج اعتمدت الولايات المتحدة الامريكية على " سياسة الاحتواء " وهي سياسة فرض سيطرة امريكا على العالم وثرواته الطبيعية وخلق عالم يخضع لسطوتها من خلال " تجارة عالمية ونظام مصرفي معقد” يدعمها بوصفها القطب القائد الوحيد بعد انهيار نظام القطبية الثنائية. والهدف الظاهري لتبرير سياسة الاحتواء هو الدفاع عن الديمقراطية ضد الشيوعية والإرهاب بينما يكمن السبب الحقيقي وراء سياسة الاحتواء هو بناء نظام دولي يخضع للولايات المتحدة الامريكية من خلال صناعة حكومات تنفذ مهمات محددة لها لصالح مركز التخطيط لهذه السياسة. وبعد احداث 11/سبتمبر 2001 تحولت الاستراتيجية الامريكية من " سياسة الردع والاحتواء" الى " سياسة الهجوم الوقائي"، عبر استخدام القوة العسكرية والتدخل المباشر لإزاحة دكتاتوريات كانت تدعمها الولايات المتحدة الامريكية تحت لافتة بناء أنظمة ديمقراطية بدلها.

ان الحجر الأساس في الاستراتيجية الامريكية هو تحقيق الدور المناط بالولايات المتحدة الامريكية كقوة رأسمالية قائدة تتولى عولمة نمط الإنتاج الرأسمالي في كل العالم، ولن تتوانى من استخدام كافة السبل المشروعة وغير المشروعة، لتحقيق هذا الهدف مثل التضليل " الديماغوجية" والتدخل المباشر وغير المباشر في شؤون الدول الأخرى، والتحول من استراتيجية الى أخرى، وتسخير ماكينتها الأيديولوجية الضخمة وسائل اعلامها، ومدارسها وجامعاتها ومعظم الصحف والمجلات التي تمتلكها شركاتها.  

ولكي تكتمل الصورة الحقيقية لاستراتيجيات الولايات المتحدة الامريكية على المستوى النظري وعلى مستوى الممارسة السياسية، لا بد من الإجابة على أسئلة عديدة تتعلق بتجربتين متناقضتين بشكل كبير وهما تجربة بلدان النمور الاسيوية وتجربة العراق.  فلماذا ازاحت أمريكا الدكتاتور صدام وابقت على حكومات النمور الاستبدادية؟  ولم اجهزت أمريكا على البنى التحتية للدولة العراقية وطورتها في بلدان النمور؟ ولم انفقت المليارات في العراق لتزرع الفساد وتخلق لوحة طبقية مشوهة داعمة لتأبيد هيمنتها وهيمنة الكتل التي لهثت وراء مشروعها؟  لم حطمت أمريكا قاعدة الإنتاج الصناعي والزراعي والحرفي في العراق وأنعشت قطاع الاستيراد والطبقة الكومبرادورية المرتبطة به؟  ولم عززت القطاعات الإنتاجية والتصديرية بشكل خاص في بلدان النمور؟ لم حطمت أمريكا أسس الدولة العراقية؟ ولم أحيت علاقات ما قبل الرأسمالية العشائرية والمناطقية والطائفية؟ وتغاضت عن نمو عوامل الدولة العميقة؟ ولم عززت أمريكا من دور الدولة في بلدان النمور الاسيوية سواء على مستوى القرار السياسي ام الاقتصادي والاجتماعي؟

ان الدول الامبريالية وبشكل خاص أمريكا وبريطانيا وفرنسا على معرفة تامة بطبيعة مشروع الدولة الذي انتجته معاهدة سايكس بيكو والذي يستهدف تكريس تبعية بلدان المنطقة لمخططات الدول الكولنيالية. ولكن حركة التحرر الوطني استطاعت ان تكسر عند حدود معينة، بعض حلقات هذا المشروع في عدد محدود من الدول ومنها العراق بعد ثورة الرابع عشر من تموز. ومنذ تلك اللحظة وضعت أمريكا نصب عينيها أهمية الاجهاز على تجربة الرابع عشر من تموز واية تجربة أخرى في المنطقة ترفع راسها لكي تحدث تغييرا في خارطتها الجيوسياسية، عبر مجموعة مفاهيم واستراتيجيات مثل " الردع والاحتواء " و " الاحتواء المزدوج " و " الهجوم الوقائي " و " الدول المارقة”.

ان العراق كدولة وكشعب يحتل مركز الصدارة في الخطط الامريكية، لان أي تغيير راديكالي حقيقي فيه قد يعصف بالمنطقة كلها على الضد من مخططات الامبريالية ، مثلما فعلت ثورة الرابع عشر من تموز في ايامها الأولى ، فهو بلد يمتلك ثروة بشرية متنوعة ، وثروات طبيعية غنية ، فهو ثاني اكبر احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، إضافة الى معادن كثيرة أخرى ، وهو بلد زراعي معروف وكان يطلق عليه قبيل الحرب العالمية الأولى " سلة العالم " ، وهو بلد ليس مطواعا سهل المنال ، ففيه حركة وطنية معارضة عريقة ، ونقابات ومنظمات شعبية خاضت معارك شرسة ضد الاحتلال البريطاني والحكومة الملكية المرتبطة به وحكومات الاستبداد التي أعقبت ثورة الرابع عشر من تموز ، وقدمت الكثير من التضحيات . لذلك اتبعت أمريكا سياسة " الاحتواء المزدوج" عام 1993 التي ابتكرتها مساعدة وزير الخارجية مادلين اولبرايت لاحتواء كل من العراق وإيران اللذين يشكلان نقطة المواجهة في المنطقة مع أمريكا في ما بعد الحرب الباردة. باستخدام الحصار الاقتصادي وتعبئة المعارضة. مع حلول عام 1997 أدرك المنظرون الأمريكان ان الحالة التي لا بد ان يكون عليها العراق يجب ان تبدأ من تدميره. ولتحقيق تدمير العراق الشامل اعتمدت أمريكا على نظرية " الفوضى الخلاقة " التي تعني تفكيك النظام السياسي القديم للدولة "تفكيكا شاملا وبناء هيكل جديد على انقاض الهيكل القديم" للنظام المنحل، اذ لا يمكن ترميم النظام القديم وان " السبيل الوحيد هو هدمه وبناء نظام جديد”.

ليس غريبا اذن ان تنفق أمريكا أكثر من (87) مليار دولار في حربها لاحتلال العراق، وتقدر الأمم المتحدة انه بنصف هذا المبلغ يمكن توفير الماء الصالح للشرب والخدمات الصحية والتعليمية لكل انسان على وجه الأرض. والهدف هو إبقاء ثروة العراق النفطية الهائلة تحت هيمنة الشركات النفطية الامريكية إضافة الى أسباب أخرى تتعلق بموقع العراق المهم وعلاقته بمشروعها الكبير بمنطقة الشرق الأوسط.

أدى كل ذلك الى ترسيخ تبعية العراق السياسية والاقتصادية ، وتحويل اقتصاده الى اقتصاد ريعي توزيعي و خدمي واحادي الجانب ، وادخلوه في " نفق الانفاق العسكري والاقتصاد الاستهلاكي " والمشروعات الوهمية ، وتحول الفساد المالي الى اخطبوط مافيوي ينتشر افقيا وعموديا ، ما سبب في هدر العائدات النفطية الضخمة ، كما أدت تلك الخطط الى تفكك الدولة العراقية وهياكلها والعودة بالمجتمع العراقي الى مكوناته الأولية الدينية والمذهبية والعرقية ، وهوياتها الفرعية السابقة لنشوء الدولة الوطنية " كالقبلية والجهوية والمذهبية " . فضاقت رابطة المواطنة لتحل محلها روابط الهويات الصغرى . فتنامى الصراع من اجل السلطة والثروة بين القوى التي لهثت وراء المشروع الأمريكي، ما أدى الى نشوء " دولة الرعايا والمكونات لا دولة المواطنين الاحرار”.

 تجربة النمور الاسيوية

  اما استراتيجية أمريكا في بلدان النمور الاسيوية (تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، كوريا الجنوبية) ثم لحقتها (إندونيسيا، تايلاند، ماليزيا)، فهي لا تختلف من حيث الجوهر عن مشروع مارشال الذي أعاد بناء المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كحائطي صد ضد المد الاشتراكي في أوروبا واسيا. فهي بلدان تمتلك موقعا إستراتيجيا لقربها من الصين والاتحاد السوفييتي ولكونها بلدان بحرية تصلح ان تكون قواعد عسكرية دائمة لقوات حلف الناتو، وتشكل بمجموعها حائط صد متين بالضد من التمدد الاشتراكي بشكليه الصيني والسوفييتي في فترة الستينيات من القرن الماضي حيث بدأت عملية إنعاش هذه البلدان برؤوس أموال وخبرات وتكنولوجيا الغرب الرأسمالي بقيادة أمريكا.

  تتميز هذه البلدان بندرة الموارد الطبيعية، واستشراء البطالة وحالة الركود الاقتصادي وارتفاع معدل النمو السكاني، وارتفاع معدلات الفقر والامية، وانخفاض معدل الأجور الحقيقية، عدم وجود قوانين للحد الأدنى للأجور، إضافة الى توفر الايدي العاملة وحرمان العمال من تنظيماتهم النقابية والسياسية التي تدافع عن حقوقهم. وتعتبر هذه المواصفات صمام امان للمشروع الأمريكي فهي ارض بكر لتطبيق مواصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، كما تنعدم المخاطر السياسية والانفجارات الاجتماعية بسبب غياب التنظيمات السياسية والديمقراطية والجماهيرية، فالبيئة مناسبة تماما لاستقبال رؤوس الأموال الأجنبية بسبب الاستقرار السياسي والأمني ووجود حكومات استبدادية تتحكم بسير الأمور عبر قبضة السلطة المركزية، مع عدم وجود قوانين تدافع عن حقوق الطبقة العاملة.

اعتمدت الإستراتيجية الامريكية على استغلال البطالة والأجور الرخيصة وارتفاع معدل النمو السكاني لتطوير الصناعات التصديرية كثيفة العمالة وذات الاجر الرخيص، وتوفير الغذاء بأسعار رخيصة وتطبيق سياسة مالية صارمة لتحاشي الوقوع في التضخم من اجل المحافظة على الاجر الحقيقي. وقامت الدولة في انجاز شبكة البنى التحتية واعطت اهتماما خاصا لتطوير التعليم والصحة والخدمات الأخرى لتوفر بيئة صالحة لاستثمار المورد البشري، وتحقيق نمو اقتصادي جيد وتطوير الصادرات وتجنب الوقوع في فخ المديونية الخارجية وتشجيع المدخرات المحلية وتشجيع وجذب الاستثمارات الأجنبية.

  بالرغم من الازمة الخانقة والعميقة التي عصفت بتلك البلدان عام 1997، فان الدعم الأمريكي والغربي السخي، وتعزيز دور الدولة في رسم السياسات الاقتصادية، واعتماد نظم مصرفية ومالية جديدة، استطاع وخلال عامين ان ينتشل تلك البلدان من مستنقع الازمة وعادت من جديد لتمارس دورها ضمن الرؤية الإستراتيجية المصممة لها.

عرض مقالات: