“بالإضافة إلى المصانع والثكنات والقرى والجبهة والسوفيتات، كان للثورة مختبر آخر هو دماغ لينين”.

تروتسكي

تعد الماركسية، في أية دراسة موضوعية، منهجاً للتفكير السياسي والمعرفي، ولد على يد كارل ماركس، الرجل الذي أذهل الناس بقدرته على الإبداع الأيديولوجي المتميز عبر تمكنه من الإبحار، وبشكل متتال، بمجاذيف أربعة هي الفلسفة والفعل الثوري والاقتصاد والروح الأممية، حيث إشتغل على فلسفة هيغل خلال 1837 – 1846، ثم أسس عصبة الشيوعيين وساهم  في الثورة الألمانية أعوام 1846-1850، ليضع بعدها نظريته الإقتصادية أعوام 1850-1867 وليختتم مشواره بـتأسيس وقيادة الأممية العمالية الأولى الأعوام 1864-1872.

لقد فهم الناس إشتغالات ماركس الأولى بإنها تفسير للتاريخ، يشير الى أن الإشتراكية هي نتيجة حتمية للتطور التاريخي للبشرية، ثم وجدوه مفكراً رأى في البروليتاريا الصناعية حفارة قبر الرأسمالية، وبعدها كان ماركس سياسياً حدد سبل إستبدال الرأسمالية بالإشتراكية، قبل أن يروه قائداً عملياً رسم معالم التنظيم العمالي القادر على التغيير، هذا التنظيم الذي إجتمعت فيه فيما بعد، أغلب الحركات الاجتماعية بأطيافها المختلفة كالتيارين الاقتصادي والبلشفي في روسيا والتيارين الثوري والاصلاحي في المانيا.

وبعد قيام الثورة الروسية عام 1917 والثورة الألمانية عام 1918-1919، انقسمت الحركات العمالية، فظهرت طبعة “اصلاحية” شكلت أساساً للإتجاه الديمقراطي الإجتماعي المعاصر، وأخرى روسية، صارت إيديولوجية الدولة السوفيتية الحديثة. وكان جلياً أن كلا المفهومين للماركسية لهما مؤسس واحد هو كارل ماركس، رغم ما سببته الظروف التاريخية من انقسامهما إلى “ماركسيتين” معاديتين لبعضهما البعض.

وإذا كانت للطبعة الأولى مسارات متعددة، فقد تميزت الطبعة الثانية بدور قائدها ومفكرها الاستراتيجي الأبرز فلاديمير لينين، الذي عرف بمقدرته الفذة على التطبيق الخلاق للماركسية عبر صياغته لنظرية الثورة بكل مفرداتها المتعلقة بالطبقة والحزب والأممية والسلام وغيرها، ولنظرية الدولة التي رسمت خطط التعامل مع السلطة والديمقراطية والصراع الطبقي المحلي والعالمي. كما سجلت له اضافاته الفلسفية وتحليله للتطور الرأسمالي، لاسيما ما يتعلق بتشخيصه للأمبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية.

ورغم سعة وتعدد الصراعات الفكرية والسياسية التي خاضها لينين في حياته، فقد شُنت عليه، ولا تزال، حرب ضروس، يتجدد أوارها عند دراسة التجربة الاشتراكية العالمية وأسباب إخفاقها ودوره فيها، سواء في الثناء على صواباته، وهنّ كثر، أو في إنتقاد أخطائه، وكذلك عند محاولة التجاوب مع الحاجة الموضوعية لتطوير الماركسية، والتخلي عن فكرة “المسلمات” بعيداً عن الانقسام التاريخي، دون تجاهل مخاطر خلط التجديد بالتفريط .

حوار ساخن

ولعل من أبرز ما يعتبره البعض عثرة للينين، إهماله للعامل الذاتي والظروف الموضوعية للثورة، والتي اعتنى بها ماركس كثيراً بعد فشل ثورات 1848 الأوربية، مؤكداً على الحاجة لحزب عمالي يستولي على السلطة، وكاشفاً عن ارتباط ذلك جذرياً بظروف المعيشة وبالتطور الثقافي والمعرفي والتنظيمي اليومي للبروليتاريا.

غير أن أية مراجعة لمجريات التاريخ، تكشف بوضوح عن لا موضوعية هذا الإنتقاد، فقد رأى لينين في الإستيلاء على السلطة والقضاء على الرأسمالية، السبيل الأنجع لتنمية قدرات البروليتاريا. ولم يكن هناك تناقض ما بين هذا الأمر وبين إدراك تخلف العامل الذاتي، لاسيما وقد تبنى الرجل برنامجاً شبه متكامل للعمل بعد الإنتصار، وشخّص الصعاب المتوقعة بعد تحقيقه، وما تحذيراته الشديدة من مخاطر البيروقراطية في الإتحاد السوفيتي، في أواخر حياته، سوى مثال على قناعاته تلك.

لقد كان لينين، الشخصية الوحيدة في تاريخ الحركة الاشتراكية الروسية، التي جسدت العلاقة بين التطبيق الواعي للمادية الجدلية وبين رسم الاستراتيجية الثورية، فبذل مجهوداً نظرياً متميزاً لتنمية الوعي الطبقي لدى البروليتاريا، وخاض الى جانب بليخانوف وروزا لوكسمبورغ، نضالاً لا هوادة فيه ضد الإنتهازيين، وبرهن على الترابط الهام بين هذا النضال وبين بناء حزب ثوري مستقل للطبقة العاملة، كما فضح التوجه الليبرالي للاتجاهات الانتهازية.

السلطة أولاً

وتبنى لينين فكرة ماركس عن تقدمية الرأسمالية مقارنة مع الإقطاع، ومن أنها ستخلق حفاري قبورها من البروليتارين في مجرى تطورها، وأكد على أن المهمة الرئيسية للماركسيين هي إسقاط القيصر وتنظيم وقيادة النضال الطبقي للبروليتاريا الروسية الصاعدة والمتحالفة مع الفلاحين، من أجل البدء بخلاص الشعب من المأساة وتحقيق الديمقراطية. وطالما سخر من أولئك الذين راحوا يناقشون كيفية إنشاء اشتراكية حقيقية، ولهذا كانت كتاباته تتعلق بالثورة وبالتنظيم وليس بكيفية بناء الاشتراكية.

ولم يكن غيره من بين قادة البلاشفة، قادراً على أن يرسم خطة لإسقاط الحكومة المؤقتة، ورؤية السبيل للمضي قدماً في الثورة. وإنهمك في صراع حاد مع الماركسيين الإصلاحيين وفي مقدمتهم بليخانوف، الذين تمسكوا بالتطور المتوازي للبلدان الرأسمالية ولم ينتظروا في روسيا سوى ثورة برجوازية لا تثمر عن أي شيء غير الرأسمالية، فتوصل الى وجود الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية والتي يمكن كسرها بيسر. أي أن لينين كان الممثل الحقيقي لإطروحات ماركس الأولى قبل 1848 وهو من أبدع في تبنيها، مجسداً مقولته حول لا قدسية الماركسية، حين قال “نحن لا نعد مذهب ماركس شيئا كاملا ومقدسا لا يمس على الاطلاق، فلم يقم ماركس الا بإرساء حجر الأساس للعلم الذي ينبغي ان يطوره الإشتراكيون”.

ولأن استراتيجية لينين قد اعتمدت على قيام الثورة البروليتارية في أوربا ثم في العالم بأسره، فقد اشتدت مخاوفه من الوقوع في الأخطاء، وربما انهيار كل شئ، إذا ما لم يتحقق هذا الهدف، تلك المخاوف التي  عبرت عنها روزا لوكسمبورغ حين قالت “لأن الاشتراكية الديمقراطية في الغرب المتطور تضم بؤساءً وجبناءً ينظرون بطريقة هادئة، فسيترك الروس ينزفون حتى الموت”.

لينين والحرية

وإذا كانت الإشتراكية تعني الحرية لدى ماركس، فإن الحرية كانت تتلخص في رأي لينين في تدمير القيصرية والشوفينية الروسية المقيتة، ثم في الخلاص من ثقافتها وبيروقراطيتها، التي قد تلوث القيادات البلشفية. ورغم اهماله الكارثي لأراء ماركس وانجلس المتأخرة، بشأن أمكانية استغلال المؤسسات البرلمانية والاقتراع العام كوسائل ساندة لنضال الطبقة العاملة، خاصة إذا ما رُبطت بالحياة المادية للناس، فإنه لم يخوّن يوماً معارضيه أوالمختلفين معه في الأراء والتكتيكات أو يكفرهم، رغم وقوفه ضد التكتل والشللية في الحزب، بل أصر دوماً على حق أعضاء الحزب في عرض إختلافاتهم حول القضايا الأساسية، وفي الدفاع عنها. كما شهدت الأممية الشيوعية في أيامه مناقشات ديمقراطية واسعة للاستراتيجيات المختلفة، وجهازاً ثوريا قيادياً لشيوعيي العالم، قبل أن تتحول الى تابع لا حول له لسلطة ستالين. ورغم أن مجريات الأحداث قد أعطت لفكرة بليخانوف، وبعده روزا لوكسمبورغ، شيئاً من المصداقية، في ما يتعلق بتحول دكتاتورية البروليتاريا الى دكتاتورية الكوادر الحزبية والبيروقراطية الحكومية، بسبب تخلف الطبقة العاملة، فإن ذلك ربما لم يكن ليحدث لولا الهيمنة الستالينية على السلطة السوفيتية.

كما برهن لينين، خلال الأعوام القليلة التي عاشها بعد انتصار اكتوبر على تمكنه من إجراء مراجعات فكرية. فبعد شيء من الرومانسية الثورية، التي لم تراع الواقع وما يتطلبه من إدارة اقتصادية توفر انتاجاً يفوق الحاجة، ومن تعامل عقلاني مع نزعة التملك، أكد على أن فترة الانتقال الى الاشتراكية هي عملية تاريخية طويلة ومعقدة، وتبنى سياسة النيب إثر فشل شيوعية الحرب. وبعد أن كان يرفض بشدة المخاوف من تحول المركزية الى بيروقراطية والديمقراطية الى ممارسات شكلية، جاء النقد اللاذع للمركزية الشديدة والدعوة لمنح لجنة الرقابة المركزية سلطة أكبر، خاصة إثر بروز الفردية. كما سجلت إستجابته لإطروحات روزا لوكسمبورغ حول الربط الجدلي بين المسألة االقومية وبين المسألة الاجتماعية – الطبقية، مثالاً أخر على ذلك. وأخيراً، لا يمكن أن ندّعي بأنه كان سيتجاوز عثراته لو طال به العمر، أبعد من الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1924، لأن هذا ما ينبغي أن يهتم به ورثته، إن أيقنوا بأن لينين فكرة لا تحنّط.

عرض مقالات: