كلّ انتخابات البرلمان العراقي بعد 2003 سادها التزييف وبشكل كبير بدءا من التحشيد الطائفي والقومي والذي أخذ طابعا تحريضيا ساهمت فيه الأحزاب الطائفية والقومية والمرجعيات الدينية والعشائرية، وهذا مناهض لما جاء في ديباجة الدستور العراقي: "...فسعينا يدا بيد، وكتفا بكتف، لنصنع عراقنا الجديد، عراق المستقبل، من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة مناطقية، ولا تمييز ولا إقصاء"، وكذلك في نصّ المادة "7- أولا" من الدستور. رافق ذلك التهديد بالسلاح والإغراء بالمال والوظائف وقطع الأراضي المزيفة وتوزيع المواد الغذائية والألبسة والأفرشة للفقراء لشراء أصواتهم . بهذه الطريقة هيمنت الأحزاب الطائفية والقومية على قرارات البرلمان وقرارات السلطة التنفيذية التي تصبّ في مصلحتها الذاتية وتحافظ على امتيازاتها، مثل قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وتقاسم الهيئات المستقلة فيما بينها، بما فيها المفوضية العليا "المستقلة" للانتخابات. قلنا ونقول ويقول الرأي العام الداخلي والخارجي هؤلاء هم من أوصل العراق، ولمدة 18 عاما، إلى هذا المستوى المتدنّي اقتصاديا وأمنيا وسياسيا واجتماعيا وخراب البنية التحتية، تدنّي العلوم والمعرفة والرعاية الصحية والاجتماعية وزيادة مستويات البطالة والفقر مقابل زيادة أرباح الفئات المتطفلة وسرقة أموال الدولة. ومن المهازل، أنّ هؤلاء المتحكمين بأمور الدولة تصل الصراعات فيما بينهم إلى حدّ الاتهامات بالسرقات وعلى الفضائيات التي تحت إدارتهم، أمّا القضاء لا يحرّك ساكنا لأنّه مسيّس ومسيّر من قبل المتنفذين في السلطة. لم تسكت الجماهير المكتوية بنار نظام المحاصصة الفاشل، بل تحرّكت في احتجاجات منذ شباط 2011 مطالبة بإصلاح النظام وحتى قيام انتفاضة تشرين 2019 التي طالبت بتغيير هذا النظام إلى نظام ديمقراطي مدني يحقق العدالة الاجتماعية. كان أول مطلب من أجل التغيير هو إسقاط حكومة عبد المهدي وإجراء انتخابات مبكرة نزيهة وبأجواء آمنة بعيدة عن الإرهاب واستخدام السلاح المنفلت، ومحاسبة القتلة ومحاسبة الفاسدين ومنعهم من استخدام المال السياسي المجهول الهوية للدعاية الانتخابية، وتعديل قانون الانتخابات وتغيير قوام مفوضية الانتخابات الخاضعة للمحاصصة.

بعد إسقاط حكومة عبد المهدي والإتيان بمصطفى الكاظمي رئيسا لمجلس الوزراء، أعطى الأخير وعودا بتنفيذ كافة مطالب المنتفضين وطمأنتهم باتخاذ إجراءات تمهّد للتغيير المرتقب، ولكن:

بعد أن حدد الكاظمي موعدا للانتخابات في حزيران 2021 حتى تسابقت أحزاب السلطة لتدّعي بأنّ موعد إجراء الانتخابات يمكن أن يكون أقرب، مثلا في نيسان 2021 تلبية لمطالب المنتفضين، وأخذت هذه الأحزاب تزايد المنتفضين والقوى الوطنية المؤيدة لها على تنفيذ مطالبهم. تحت ستار هذه الادّعاءات استمرّت ميليشيات هذه الأحزاب بقتل واختطاف المنتفضين، ولما كانت حكومة الكاظمي بعيدة من أن تتجرأ على كشف القتلة ولتفادي الإحراج، نسّبت تلك الجرائم إلى طرف ثالث حتى أصبح هذا الطرف مجهولا لحدّ الآن. أمّا في الجانب الخفي كانت تدور محاولات لعرقلة الانتخابات وتأجيلها حتى موعدها المقرر في نيسان 2022. نقلا عن "إرم نيوز" في بغداد يوم 16/1/2021 بأنّ هناك ضغوطا على رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تمارسها أحزاب عراقية مقربة من إيران لتأجيل الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في السادس من حزيران، وقال المسؤول، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لـ“إرم نيوز“، "إن تحالفي الفتح وائتلاف دولة القانون، وأطرافا أخرى تمارس ضغوطا على رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، بشأن تأجيل الانتخابات؛ لأسباب سياسية بحتة تتعلق بوضع تلك الأحزاب، وعدم رغبتها في حل البرلمان، فضلا عن عدم الاستعداد الكافي لخوض السباق الانتخابي، وفق المتغيرات التي شهدتها الساحة العراقية، خلال السنوات الثلاث الماضية وأضاف أن ”الاجتماع الذي عُقد، يوم الخميس، للرئاسات الأربع، (الجمهورية، والوزراء، والبرلمان، والقضاء- المقصود في 14/1/2021)، بحث استعدادات مفوضية الانتخابات بحضور ممثل عن الأمم المتحدة، وكان الاتفاق على إمضاء الموعد المقرر للانتخابات، على رغم الضغوط التي مارستها تلك الأحزاب، ومطالباتها المتكررة، وإشاعتها بأن الاستعدادات غير كافية". نرى هنا، بأنّ الرئاسات الأربعة تؤكّد بأنّ المفوضية مستعدة لإجراء الانتخابات المبكرة لتوافر كافة الشروط والمستلزمات، كما أكّد ذلك مستشار رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات عبد الحسين الهنداوي ووضّح الآلية القانونية لتحديد يوم الانتخابات بعيدا من أن يتدّخل أي حزب أو منظمة أو شخص بالضدّ من ذلك.

تحت وطأة الاغتيالات والوعود ومناورات الحكومة وأحزاب السلطة وانتشار جائحة كورونا بين الناس بشكل كبير هدأت الانتفاضة، ومن غير المتوقّع أعلنت المفوضية بأنّها غير جاهزة لإجراء الانتخابات في موعدها يوم 6 حزيران 2021، إذن انصاع الكاظمي لمطالب أحزاب السلطة متناسيا مطالب الجماهير  وحقّها الدستوري في العيش برفاهية وأمان وسلام وأعلن عن تأجيل موعد الانتخابات حتى العاشر من تشرين الأول 2021 لعدم جاهزية المفوضية، وعمليا استطاعت أحزاب السلطة أن تؤخر الموعد ليتسنى لها ترتيب أوضاعها لخوض الانتخابات حسب ما يناسبها للحفاظ على امتيازاتها بعيدا عن مطالب الانتفاضة واسترخاصها لدماء المئات من شهدائها الأبطال وآلاف الجرحى.

السؤال الذي يراود الكثيرين من الناس: من هو الأعلم أو الأكثر معرفة أو الأقرب إلى مفوضية الانتخابات أو يتابع عملها، الرئاسات الأربع وممثلة الأمم المتحدة الذين وافقوا على تحديد يوم 6 حزيران لإجراء الانتخابات المبكرة أم أحزاب السلطة الذين فرضوا قوام المفوضية وادّعوا بأنّها، أي المفوضية، تغيّرت وأصبحت مستقلة وفق مطالب المنتفضين؟ ونسأل أيضا: ما قيمة الانتخابات التي ضحّت الملايين من الجماهير بمئات الشهداء وآلاف الجرحى عندما تتحكّم فيها نفس الأحزاب المتنفذة التي طالبت الجماهير بمحاسبتها على فسادها وتلطيخ أياديها بدماء الأبرياء وإيصالها البلد إلى مستويات متدنية في المعيشة والإعمار، زيادة البطالة والفقر والسرقات، وساحة صراع بين الدول ولهثها لتنفيذ أجندات هذه الدولة أو تلك؟

لقد أفرغت الانتخابات من محتواها كونها مبكرة وأصبحت انتخابات لإعادة تدوير نفس الأحزاب، بغض النظر عن تغييرها لبعض الوجوه وحوّلت أكثرية مرشحيها إلى مستقلّين وموّلت دعاياتهم على حساب المال السياسي وسكوت المفوضية على هذا الخرق، قامت بشراء ما تستطيع من البطاقات الانتخابية وبكل الوسائل وتقديم رشاوي "محترمة" إلى أصحاب نفوذ، خاصة بعض رؤساء العشائر لأنّ قانون الانتخابات الجديد يشجّع على التقسيم العشائري للعراق، هذا وغيرها ما تمتلكه من أساليب قديمة وجديدة لشراء الذمم لأنّ خبرتها طويلة في هذا المجال، أي أنّ سوق بيع وشراء الأصوات يسير على قدم وساق. بعد أن عجزت حكومة الكاظمي عن تنفيذ وعودها أمام المنتفضين ولم يبقى أمامها سوى تبرير عجزها هذا عن طريق وسائل الإعلام، خاصة الفضائيات التي تدعو إلى عدم مقاطعة الانتخابات بادّعاءات باطلة كونها "نزيهة" وآلاف الخروقات أمام الأعين تؤكّد عدم نزاهتها ونادرا ما تتخذ إجراءات ضد القائمين على هذه الخروقات من قبل السلطات المعنية، ولتتمكن أخيرا هذه الأحزاب من حسم نتائج الانتخابات لصالحها. 

 أية انتخابات مبكرة هذه، وعلى ما ولماذا نصوّت؟؟؟      

عرض مقالات: