في السفر، الرفقة من أهم الضرورات، كما تخبرنا حكاية (وافق شنٌ طبقة) وتبقى الرفقة هي ملح متاع الاسفار. الآن صار لنا رفيق سفرٍ، من يجاورنا في المركبة، وهناك رفيقٌ يحررنا مِن ضنك ِالوحدة ويسعدنا، هو الموبايل. ومن خلال الموبايل تطمأن علي اسرتي بين الحين والآخر.

 الطقس ُ أغنية ٌ من أغاني أيلول، ميلي إلى الصمت، يحررني من الوحدة، المرأتان المجاورتان لي حررهما اللسان من كل شيء: الاحزان ومشاكل العائلة، ومن رتابة المسؤوليات اليومية، تآلفهما شغلهما.. وأوصل المرأتين إلى حالة من السعادة، حين حل صمتهما قليلا وربما جعلتني إحداهما مرآة ً لتتمرى من خلالي!! ماذا تقولان عن صمتي؟ كنت أمسح سرعة المركبة بملاحظات عينيّ عن معالم الطريق وحين كادت الوحدة أن تتصنع غيمة ً، تحصنتُ بمرئيات ذاكرتي: تقود أمي طراوة طفولتي في سفرتي الأولى تقودها بكل حنوها، سفرتان مع إحدى أخواتي.. توالت السفرات مع أخي الأكبر ثم أخي الأوسط.. صرنا نسافر أنا وعائلتي الصغيرة.. كل هؤلاء  معي الآن، تلاشت الغيمة اليابسة.

تلاشت حين تصدى لها ندى الوجوه. هذه سفرتي الثانية وحدي – الحافظ الله – استعنت ُ بصديقي الثاني رفيق السفر: (الموبايل)، موسيقى مولوية من فيلم (ألوان السماء السبعة) : فاروق الفيشاوي وليلي علوي.. أغمض ُ أرى الفيشاوي يدور صاعدا متلامعا بألوانه السبعة، متماهيا بالنقطة

رافعا تنانيره مظلة للصعود لا للهبوط ..

تجاور المركبة مع صحراء انفتحت على مذكرات القائد التركي تاوزن. أقرأ لوحة خضراء: (ناحية أم شعير)، هنا مقبرة الجنود الاتراك المقاتلين ضد الجيش البريطاني.. هنا الحصار الأشد فتكا.. تنتشلني المركبة. بجنوحها المنقذ نحو اليسار.. عيناي ترى  مسافرين آخرين.. منهم من فضل الحلم رفيقا.. فأغمض عينيه مستسلما لغفوة ساردة.. وبعضهم يتأمل الطريق مبتسما كما لو ان ذكرى ما فرضت عليه رفقتها.. السائق كان منشغلا بالطريق بينما لفت انتباهه صوت منبه سيارة أخرى التفت   وجد زميلا  يرفع يده بجهاز الموبايل كما لو أنه يقول له اتصل...:

  • 120 لا اعتبرها سرعة، ستجعلنا نبات في الطريق

انهى السائق الآخر المكالمة، التفت سائق مركبتنا وخاطب الراكب المجاور له : سيارته أصيبت بعطل مباغت، يترجاني ان ارافقه في المسير، حتى نصل دار ألاستراحة.. لتصليح سيارته لتكون بالسرعة التي اعتاد عليها...

عدت بنظري ثانية الى الصحراء الى ذلك الصمت البليغ.. كلما حاولت الاصغاء له شاكستني ذكرى صاخبة..

 ولا ادري لماذا حين هبطت صورتك تلاشت كل الصور ورأيتني اغمضُ عيني كما الذي يضم براحته حجر ثمين .. تهمسني: شاركيني الغناء والرقص. ورحت تدندن ... شعرت بعطش لسماعها.. فتحت حقيبتي، اخرجت جهاز الموبايل. وبحثت في اليوتيوب عن الأغنية، وضعت السماعة بإذني وأصغيت .. رأيتك تضحك وعلى جانب الطريق تركن السيارة تتوقف للحظات تتأمل الطريق الممتد أمام ناظريك، تستنشق بعمق، تلتفت الي ودون اي مقدمات تمد ذراعيك حولي وتضمني بقميص منسوج من القبل.. لا ادري كيف بدلت الأغنية كلماتها ولحنها والصوت يتعالى: ( عاشكين احنا وهوينا هوينا ومثل ماردنا لكينا.. ).

 ابتسمت وأنا اسألك: أحقا..؟ قاسمتني: .. انه لحق..

 ألوذ بأحلامي متأملة اسراب المسرات..، الصوت يهفت بنغم عذب يتوغل همسا ..: ( ياما نسينا عتابنا ساعات العتاب خاف الوكت فد يوم ما يحسبنا احباب..). يد تهزني، فتحتُ عيني رأيت شفاه المرأة التي تجلس جنبي تتحرك وعيناها تخاطبني .. رفعت عن أذني السماعة تساءلتُ: ماذا؟

قالت: السائق يسألك أين تودين الترجل هنا أم في النهضة..؟ مستغربة تساءلتُ: هل وصلنا..!!.

عرض مقالات: