في كل بقاع العالم وأنظمته المختلفة تجري حركات احتجاجية للمطالبة بتحسين ظروف الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد تختلف مظاهر التعبير عن تلك المطالب استنادا الى طبيعة النظم السياسية التي تجري في ظلها الاحتجاجات، وهي تتراوح بين الكبت والترقب واللجوء الى وسائل التعبير الرمزية او الخفية في ظل نظم القمع والدكتاتورية، الى مظاهر التعبير المباشر في ظل نظم الانفتاح والتعبير عن حرية الرأي والمطالبة في تحسين ظروف العيش في ظل نظم تحمي حق التظاهر بأعتباره حق انساني ودستوري، وهنا تعتبر حماية حياة المتظاهر من التنكيل والقتل مسلمة تعلو فوق كل الاعتبارات، باعتبار ان الانسان والمتظاهر وحياته خطوط حمراء لا يمكن المساس بها مهما اختلفنا او اجتهدنا حول صلاحية وجدوى وسائل التعبير عن المطالب، فالانسان هو الهدف الاسمى والغاية العليا من وراء الاصلاح وتحسين ظروف الحياة، وبالتالي فأن التعرض لحياته وتهديده وقتله وأخفائه قسرا وتغيبه يعتبر مسلمة اساسية في سقوط سمعة النظام السياسي وعدم جدوى بقائه باعتباره حاضنة للقتل والارهاب والتجويع ويجسد اشد الحالات اغترابا بين المواطن والحاكم، ومن هنا فأن ازاحته عن المشهد السياسي تعتبر ضمن اولويات حركات الاحتجاج المطلبية والتي تسعى في حقها المشروع لحماية نفسها وتعزيز السلم المجتمعي القائم على سنة الحوار والتنوع في الانتمائات بعيدا عن لغة السلاح.

في العراق كان بالإمكان ورغم ظروف وملابسات الاحتلال الامريكي البغيض ان ينهض البلد من ركام حروب النظام السابق وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في وضع اللبنات الاولى لتأسيس ديمقراطية ناشئة والتأسيس لأجادة اللعبة الديمقراطية  في اساسها الضروري وهو التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، بشرط توفر القناعة السياسية ان  نتائج ما تفرزه صناديق الاقتراع هو ممهدات لأعادة انتاج العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة ومؤسساتها واضفاء شرعية على الحكومة المنتخبة وتسهيل مهمة ادوارها في الحفاظ على السلم المجنمعي ورعاية مصالح المجتمع وتحسين أداء مؤسساته.

اصطدم العراق وشعبه بمنظومة سياسية لا تؤمن بالديمقراطية السياسية ولا بالتداول السلمي للسلطة، وهذا ليست اشكاليات فردية او عقم في القيادات السياسية بل هو تعبير عن قناعات ايديولوجية راسخة ان الديمقراطية السياسية هي بدعة غربية وبالتالي فأن محاربتها والعبث في الاستقرار المجنمعي هو واجب شرعي تستدعيه اجندة ما ورائية ويحمل قدسية مزيفة من نوع خاص، وعبر مسيرة 18 عاما ما بعد سقوط الدكتاتورية في 2003 جرى التحايل والعبث والتخريب لكل مفاهيم الديمقراطية او فهم المكونات المجتمعية المتنوعة للمجتمع العراقي فهما متحايلا يصب في خانة تكريس نظام المحاصصة الطائفية والاثنية واعادة انتاجه قسرا لأبقاء الاوضاع كما هي في مستنقع التحاصص والتغانم للدولة ومؤسساتها، فقد جرى العبث بكل المفاهيم عبر تسويقها في لحظات الاستفادة القصوى من التداعيات الانفعالية او الشحن العاطفي، فمن شعارات المحاصصة الطائفية سيئة السمعة والصيت الى مفهوم الشراكة الوطني الى كتلة وطنية عابرة للطوائف او الاغلبية السياسية وجميعها تخفي ورائها نتن الطائفية والمحاصصة الاثنية عندما تسوق من قبل امراء الطوائف السياسية والاثنية.

ما يجري في العراق هو شيطنة سياسية بين سلوكيات قوى سياسية ليست لها صلة بالديمقراطية لا فكرا ولا ممارسة، بل ان ثقافة الغنيمة هي من يتحكم بمفاصل الدولة ومؤسساتها، وبالتالي الحديث عن الديمقراطية في العراق هو صراع بين مجموعة ثعالب سياسية لا يوجد بينهم أسد حريص على العراق، بل انهم متسولين في السياسة وكل اجماعاتهم المؤقتة هي جزء من دهاء سلوكيات الثعلب الذي يريد الخلاص بجلده والابقاء على مصالحه، ولعل المثل الاقرب هو حين اتفقوا على مجيئ الكاظمي كرئيسا للوزراء ثم تركوه لوحده، وكيف لرئيس وزراء يشتغل دون كتلة نيابية داعمة له، هذا يجري فقط في "العراق الديمقراطي" ان تأتي برئيس وزراء ثم تقول له دبر راسك أو "يطبك مرض".

السياسيون في العراق يجسدهم بشكل واضح الثالوث السيكولوجي المظلم او ما يقال عنه مثلث برمودا والمتكون من السيكوباتيا، والنرجسية والميكافيلية، نجد السياسين العراقيين في سايكبوتيتهم من قسوة وعدم الندم والتعاطف مع الاخرين ويتلذذ بألحاق الاذى بالاخرين وانهم اصحاب تاريخ اسود عند التحري عن سيرتهم الشخصية وهم متهورون ومعتدين بأنفسهم.

ثم صفة النرجسية المفرطة فهم لا يتقبلون النقد بل ويقابلوه بالسلاح والكواتم ويظنون انهم الافضل والاحسن دوما ولا يعجبون بالرضا عن اي شيئ من الآخر وقد يفسر ذلك لجوئهم للسلاح والاغتيالات وهم لا يستسيغوا غير المديح النفرط، ويفتعلوا السحر والجاذبية عبر خطاباتهم المموهة بالكذب والمبالغة والخداع وهم لا يعجبون بشيء على الاطلاق ولذلك يلجئون الى لغة السلاح.

اما الخاصية الميكافيلية فالسياسيين العراقيين يجيدون المكر والخداع والازدواجية ولديهم اولوية المال والسلطة والسلاح، وهم يقترفون ويرتكبون اشد الجرائم للحفاظ على البقاء في الحكم ولديهم كل الوسائل والدنيئة في مقدمتها انها مشروعة ويجب استخدامها للبقاء والحفاظ على المحاصصة الطائفية والاثنية.

بالتأكيد ان فسحة الأمل لازالت قيد الاختبار في العراق للتغير واحداث نقلة نوعية في موازين القوى السياسية استنادا الى قدرات القوى الحاكمة في التشبث في السلطة بوسائل الترهيب والترغيب، ولكن الأمل معقود على قوى الاحتجاجات السلمية التي دكت قلاع نظام المحاصصة واضعفته بل ووضعته في خيارات محدودة تقوض من بنيته المتهالكة الفاسدة، ومن هنا ومن موقع المسؤولية ان على قوى الحراك ان تنظم نفسها بما يستجيب لحجم مهماتها الصعبة في اختراق نظام المحاصصة واعادة تشكيل القوى السياسية على اساس من خيارات الشعب وارادته الحرة، وعلى الحراك التحالف مع القوى السياسية ذات الارث المشرف في النضال ضد الدكتاتورية وفي مقدمتها قوى اليسار العراقي والقوى المدنية التقدمية، فأن الخلاص لا يأتي عبر بعثرة وتشتت الجهود المناهظة لنطام المحاصصة بل عبر توحيد كل القوى الفاعلة من اجل عراق افضل.

الحل الجذري في العراق ليست سهلا ولا يحل بتعويذة او دعاء ولكن هناك خطوات يعرفها العراقيون قبل غيرهم وهي:  أولاً يجب أن يكون القضاء قوياً وقادراً على فرض القانون في البلاد.. ثانياً، أن تستعد المحكمة الاتحادية لاتخاذ إجراءات صارمة ضد مَن يخطئ ويقصر. واتخاذ هذه الإجراءات يحتاج إلى محاكمات عادلة خالية من الفساد الإداري والسياسي الذي يحول دون المساس بأي شخص مدعوم من جهة سياسية أو ميليشياوية نافذة. وذلك يدل على أهمية الإجراء الثالث المقترح، وهو تغيير النظام السياسي القائم في البلاد، إذ هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في النظام السياسي المبني على المحاصصة، وتفتيت موارد ومقدرات البلاد وتوزيعها على أطراف سياسية مختلفة بدلاً من نظام سياسي يعمل على بناء مؤسسات الدولة.
أما العامل الرابع، فهو يعتمد على تأهيل الكوادر في الوزارات والدوائر الحكومية ووضع منهاج عمل واضح لها بعد أن تراجعت خلال السنوات الماضية. ويجب أن تشمل عمليات التأهيل هذه الصيانة الإلزامية لكل مرافق الدولة ومشاريعها. ففي الوقت الراهن، توقع غالبية العقود من دون إدراج بنود صيانة واضحة، إذ مَن يشرف على العقد عادة ما يكون حصوله على عمولة عالية فوق أي اعتبار آخر.
وهذه القضايا كلها في النهاية تحتاج إلى العامل الخامس والأهم، وهو مكافحة آفة الفساد في البلاد؛ إذ لا يمكن لنجاح أي دولة وهي تعاني من الفساد من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيداً، إلا أن يكون قطع رأس الفساد هو العامل الأهم لديها. وإن لم يتم تبني هذه الإجراءات في العراق، فمن المحتم أن نعلن الحداد فيه وعليه مجددا، فقد أهدر 1400 مليار دولار للفترة ما بعد 2003 وغابت في العراق التنمية الشاملة وتنوع القطاعات الاقتصادية، حتى بات العراق يبيع نفطا ليأكل.

هذه الآراء يضعها كتاب عراقيون وعرب وليست مني فقط لأحساسهم المرهف بحال العراق وتمنياتهم بأصلاح حاله ولكن الأمر مرهون كله بتغير المنظومة السياسية الحاكمة كي تسنح الفرصة للبدء في عمليات التغير الجذري، فأن موزاين القوى هو من يسمح بأصلاح المنظومة السياسية الفاسدة اما عدا ذلك فأن العراق يسير الى حيث لا تشتهية سفن ابنائه !!!.

عرض مقالات: