صدر الجزء الأول عام 2007 من مطابع دار الشؤون الثقافية، احدى دوائر وزارة الثقافة في 304 صفحة من القطع المتوسط، قدمت الكاتبة سافرة جميل حافظ في مقدمة الرواية اقتباسا لقول هيرمان هسه الكاتب السويسري (لا نريد ان ننسى ان كتابة التاريخ مهما التزمت التجرد ومهما ساندتها الإرادة الطيبة لاحترام الموضوعية تظل دائما ضربا من الأدب يكون فيه الخيال البعد الثالث)، فاذا كان الخيال لازما لكتابة التاريخ نفسه فما بالك بكتابة القصص التاريخية. وتوثق الكاتبة في روايتها احداثا تاريخية من خلال سرد احداث قصة عاش افرادها المرحلة بكل تناقضاتها وارهاصاتها، وكيف أثرت على حياتهم العائلية والاجتماعية.
نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مرحلة انتقالية عميقة في المجتمع وابطالها الحقيقيون يسردون وقائعها بالتفصيل، فقد هزتهم احداثها، واثارت في اذهانهم شتى التساؤلات، ورجّت المجتمع الذي كان يغلي بالتطورات الجديدة، وهو يعتقد انه ثابت لا يتزعزع. تحدثوا عن حياتهم ليرسخوا فينا الصفات التي شدتهم سابقا بعضهم الى بعض، على الرغم من كل منغصات الحياة، والعراقيون ومنذ بداية القرن العشرين كانوا حساسين جدا ومتفهمين أكثر لكل التقلبات السياسية، لأنهم عاصروها وعاشوا احداثها .. طرحت الكاتبة ارهاصات تلك المرحلة الانتقالية من تاريخ عائلتها كما سمعتها من أفواه ابطالها وخاصة الأحاديث التي لا يمكن ان تنسى، روتها بطلة الرواية خالتها واعطتها اسم (حسيبة).
تؤكد الكاتبة أن الكثير مما جاء في الرواية واقعي الا ما استوجبه ربط الحوادث من الخروج التاريخي الى البعد الثالث، وتقدم الى كل من عنتهم (هم) في تلك المرحلة التاريخية تحية وفاء واعتزاز لبطولاتهم، ورغم بساطتهم كانوا وطنيين يدفعهم حماسهم وحبهم لأهلهم وجيرانهم ووطنهم وارضهم بعيدا عن الطائفية والعنصرية التي لم تكن ابدا حاجزا بين الناس الطيبين.
وفي الجزء الثاني من رواية (هم ونحن والقادمون) التي صدرت في عام 2012 في 154 صفحة من القطع المتوسط، روت عن (نحن) في التاريخ الذي هو أشد اضطرابا والأخطر في تاريخ العراق، تهديه.. الى من للمستها أشعر بحنان لم يشعرني به أحد قط ... أمي والى كل أم ..
قد لا تختزن الذاكرة حوادث ما مر عليها، فتسرد الكاتبة مذكرة ببدايات القرن الماضي زمن الدولة العثمانية وحسيبة الطفلة التي تتربى وسط عائلة يموت رجالها وتتزوج من رجل يكبرها سنا وتلد منه ثلاثة اطفال يموتون جميعهم، ويقتل الانكليز حين احتلالهم العراق زوجها بتهمة التعاون مع العثمانيين، وبعد خروج الانكليز يستبشر الناس خيرا، وتتزوج حسيبة من ابن عمها الضابط في الخيالة الملكية، وهكذا تكون قد دخلت الى تاريخ العائلة مع الأجيال الجديدة والأحداث السياسية والاجتماعية والارهاصات التي سادت المجتمع الحديث. تقص في ثلاثين صورة أسمتها فصولا لأحداث متنوعة مترابطة لزمن انسابت سنواته راكضة أسرع من انعكاسات الضوء التي تتراقص عبر الشمس اليومية، وكما ينساب الماء من كوة في جدار (حسيبة) ليروي حديقتها المترامية الاطراف مذكرة الجميع اليوم الذي وقف فيه (بابا الحجي) مع جمهرة من اصدقائه ليستمعوا الى صوت الماكنة .. بم .. بم .. تدوي نداء لزمن جديد ولتسقي في أول مرورها شجيرات الرازقي تتناوله بالعناية لتعمل من زهوره البيضاء قلادة او سوارا يتدلى من معصمها ... كانت حسيبة تسأل الفلاح الذي يرعى الحديقة (البستنجي): لما لا تثمر هذه الشجرة؟ يجيبها: هي زعلانة .. الجو ليس جوها ولا البيئة بيئتها .. كانت حسيبة تضحك على لكنته غير العربية، وبالكاد تلتقط بعض مفرداته فيملؤها منطقه فرحا. ثم تنقطع فرحتها حين يتحدث عن الأثمار وعدم الانجاب متأوهة من الداخل من صميم قلبها، لقد حصلت الآن على كل شيء ولكنها فقدت الأثمن بالنسبة لها، هو موت اولادها والآن عدم الانجاب، اقترنت بالشاب الطويل الممتليء الفخور بنفسه والعاشق للخيل ويحتفظ بمجموعة من الخيول يتمشى بها في مماشي البستان التي مات تحت ظلال أشجارها بابا الحجي.
وتنقل لنا في صورة اخرى البيت البسيط لأخت حسيبة الصغرى وأولادها الخمسة و زوجها.. الأولاد يكبرون وينتشرون بين البستان وأكواخ الفلاحين.. وتفكر الأم بذهاب الأولاد الى المدرسة وزمان الملا يسير الى الزوال وأحاديث عن بنات يذهبن الى المدارس وفي أيديهن الكتب والأقلام.. وحسيبة تنظر إليهم ففي كل واحد منهم جزء منها ومن هذا الكيان الواسع سار بها قطار أبدي لا يتوقف وسيبقى سائرا ضاجا وصامتا مرة اخرى كمسبحتها ابدا ..

عرض مقالات: