أجمل شيء في قصيدة (الريل) انها حملتْ نوعاً من (الهجاء الشعري) بهدوءِ الفهمِ الثقافي، العربي، القادم من زمان الأصمعي، الشاعر الثاقب صانع قصيدة غير تقليدية (صوت صفير البلبل).

اكتمل جمال قصيدة الريل حين غُنّيتْ بصوتِ الثقةِ والفهم الثقافي، معاً، فكانت قوتها غير تقليدية.

ما سر العلاقة بين (الهجاء) و (الثقة) ...؟

ليس سراً إذا قلتُ ان أصل العلاقة جاءَ من التساند بين مظفر النواب وسعدي الحديثي. استطاع الأول ان يكون منوّر الأمل في تطور الشعر الشعبي.

الثاني بَحَثَ عن صوتِ الأمل لتحقيقِ اغنيةٍ شعبيةٍ جاءت ببليغِ كلامٍ وحكمةٍ وعزمٍ ليس مصلوباً.

زها الأول بروض الشعر.

وصَدَحَ الثاني بمجدِ الصوت في الشعر.

اندماج الزهو والصدح جعل خفقان قلبين قد بدا خفقاناً واحداً.

الهاجي، هنا، اسمه مظفر، والصادح اسمه سعدي.

نظرُ كل واحدٍ منهما مرتفعٌ فوق أرضينِ ممطورتينِ بعطرِ الشعرِ الشعبي.  وانهما على يقينٍ أنّ زحلوفة كل منهما خالدٌة الى الأبد.

 فعلَ (الأديبُ) مظفر النواب، ذات الفعلة التي أقدم عليها (العالم الذرّي) ألبرت أينشتاين، حين حاز على شهرته العامة، الواسعة والسريعة بــ (مقالةِ واحدة ِ). نشر مقالة واحدة فقط، بمجلة ألمانية عام ١٩١١، فصار اسمه متربعاً، ببراعة، على اعلى قمة في الدهر العلمي، كله.

قام مظفر النواب بنشر قصيدة واحدة، قصيدة شعبية، قصيدة مستجدة، نشرها بمجلة عراقية، تقدمية المنحى والاتجاه، تمكّن فيها من تتويجِ رؤوس الأدباء بالمعارف والعلوم الشعرية، أيضاً، محاولاً ان يكون حليفاً مع طريقة (أينشتاين) أو مقلداً أسلوبه في نيل الشهرة.

لا أدرى هل فعلها عن قصدٍ او انها جاءت تستخلف وحدانية طريقة عبد الملك بن قريع الأصمعي (740 م – 831 م) في الشهرة بالصحارى العربية، بما دقّه دقّاً في قصيدة (صوت صفير البلبل) ...!

على أية حال، مرّ سعدي الحديثي مرور الطائر في المقدمة وليس في الخلف ليقول: (انا واهب الأدب الشعبي..  إذاً انا موجود ...!) متذكّراً ديكارت، واجداً في هذا التذكار أماناً طوالَ سني دراسته لنيل شهادة الدكتوراه في احدى الجامعات البريطانية. ربما جاء هذا القول تأثراً بوجودهِ في اكناف الثقافة البريطانية الرأسمالية، حيث لم تضربه منها أية ضربة، مؤذية او ممْرِضة.  لم يتطاير عليه شرارُ نارٍ في زمان دراسته العليا، بالرغم من وجودِ غليانٍ حاقدٍ في بطونِ الكثير من اعدائه العراقيين، المشاغبين في بريطانيا، لأنهم يتهمون (سعدي الحديثي) بأن ترابه معفّرٌ برمادِ الشاعر (مظفر النواب)، المسبوك بمقلاعِ الشيوعية، المعادية، لنظام صدام حسين طيلة 35 عاماً من وجوده على رأسِ السلطة.

أراد مظفر النواب، منذ شبابه الأول، ان يحوز على الشهرة بـ(قصيدةٍ شعبيةٍ) واحدةٍ. اما سعدي الحديثي فقد تعلّم من بداوة الفرات الغربي وبساتينه، ان الأنسان لا يمكنه ان يكون شهيراً إلّا إذا امتلك صوتاً، عالياً، من أصوات الطيور والبلابل، النادرة بالصحارى. 

وزّع جهده اليومي، الشعبي والأكاديمي، ليكون قائداً من قادة الصادحين في أفواج الشعر الشعبي والبدوي، بمقدارٍ عالٍ من علوم الجامعة البريطانية ومراكز الأبحاث الموسيقية - الغنائية، في غرب أوربا وشرقها. صار من الطبيعي لهذه الجامعات طلاباً واساتذةً، ان يعرفوا ممرات الشعر الشعبي والبدوي من خلال شهرة الشاعر مظفر النواب والباحث سعدي الحديثي وهما يفرشان امامهما قصيدة (للريل وحمد) كأنها حصيرة وليمة غداء لتناول السمك المشوي. الحصيرة مصنوعة من النايلون الملون او من الخوص المصبوغ.

مثلما تصدّع رأس مظفر النواب بكتابة قصيدة (الريل)، كذلك تصدّع رأس سعدي الحديثي برعودِ خصائلها.

انشطرتْ القضية الواحدة الى قضيتين، وصارت النجمة الواحدة نجمتين.  ركب الريل عشرة وعشرين. ربما ألف.. كلهم أحبوا شعر النواب متزحلقاً على (هودر هواهم).

بعضهم لم تعذبه فكرة انها قصيدة غير تقليدية. آخرون انغمسوا فيها أكثر، بينما سعدي الحديثي استطاع من تثبيت عينيه الواسعتين، على رفعها، بصوتهِ، الى اسماعٍ كثيرة.

 كان سعدي يتنفس نفسه وأنفاس الرجل وانفاس النواب بغناءِ قصيدةٍ واحدةٍ، ثم تكاثرتْ قطرات مطرها في الدهور التجارية.

مظفر النواب أحب الشعر والموسيقى منذ الصغر. سعدي الحديثي أحب الشعر الشعبي وأغاني البدو، منذ الصغر.

كان الكثير من اصحاب الصديقين يستغلّون وقت فراغ سعدي الحديثي، حتى يسألونه عن قصيدة النواب، بيتاً، بيتاً، خصلةً، خصلة.

يسألونه عن معاني بعض المفردات، عن ربطها اللّين بين المرأة والحب والاخلاص.

كانوا يسألون سعدي، وهم مستريحين، عن مدى العلاقة الشعرية (البدوية) بالقصيدة (الشعبية) أو عن أية قضية شعرية، صغيرة او كبيرة.

كان رأي سعدي أو رضاه هو، نفسه، رأي مظفر أو رضاه، تقريباً. غريزة المعرفة جعلتْ (سعدي الحديثي) ملمّاً بواقعية اشعار البدو في الغرب العراقي. لا يحدّ على نفسه اي نوعٍ من العلم والمعرفة إلى حدِّ بلوغها في أبحاثه وكتبه، مرتبة أولى، في البلاد العربية.  كما سعى سعدي الحديثي، الى تطوير معرفته للنشاط العقلي عند الشاعر مظفر النواب، حتى تحوّل الى مركزٍ ممتازٍ في استخدامِ اعلى درجات الوعي الريفي، في وصفية القصيدة المظفرية وعن نظام إدارة مظفر النواب لقصيدة (الريل وحمد)، بصفةٍ خاصة.

كانت صداقتهما، خالصة، تماماً.  نعمة باحتفائهما، غضّة لهما   وللأدب الشعبي العراقي وتراثه الغزير.. بإمكان صداقتهما أن توفّر لجميع الدارسين والباحثين، فرصة الحصول على إشراقٍ عميقٍ عند اجابةِ اي سؤالٍ من أسئلة التعرّف على المظهر الأساسي في ارتباط السلوكية الفكرية والعاطفية بين الموقفين، الشخصيين، الانتقائيين.. موقف سعدي من مفاهيم اشعار مظفر، المستندة الى الإدراكية الواعية في التطور الاجتماعي، العراقي.  او   موقف مظفر من أداء سعدي في غناء القصيدة بصوتِ الاستجابة الفنية، الجامعة بين الموروث الموسيقي في الصحراء والريف والمدن العراقية، بالمقارنة مع الدراسات الموسيقية المعاصرة.

معظم السواد العراقي، من أنصار الشعر الشعبي، البدوي او المدني او الريفي، يمدّون قامتهم نحو مظفر النواب منذ صدور قصيدة الريل وحمد، حتى اليوم، مستفسرين عن أشجار ونخيل الأدب والفن والشعر في بساتين الموهبة لدى سعدي الحديثي، المتميز صوته بالقدرة الفائقة على جمعِ تقاطع (القوة) و (المعنى) في الأغنية الريفية والبدوية بالعراق.

معظم الطيبين الخُضَرَاء يسألون سعدي عن أسبابِ هناءةِ مستمعي وقرّاء قصيدة (الريل)، كما لو كانوا يسألون صانعها الأصلي   وصائغ صفاء آياتها وأبياتها.

ليس صعباً عليكَ ان تسأل سعدي عن خُضرةِ قصيدة الريل، وليس صعباً عليّ ان استفسر من مظفر عن خَضارةِ صوتِ سعدي.

كل جواب عن الأخضر الآخر يدلّ على عمقِ الصداقة بين الاثنين.

صداقتهما كانت قوية، عزيزة، مع جميع اصحاب هذا النواب وذاك الحديثي. ما شكا أحدهما من شيء حتى انصرف الآخر إلى الألم. 

كلاهما يرمشان إذا أدركا أذىً يناله شعب الرافدين، حالهما، في القصيدة المظفرية، كما هو حال صداقة دجلة والفرات، صديقان خالدان للأرض السومرية - البابلية - الآشورية..

كما الماء كريماً معها، كذلك الكلمة الصادحة بمبادئ الانسانية وفيةً مع هذه الارض الرافدينية.  منها الشعر وبحوره ومنها النشيد واصوله.

أدرك كل واحد منهما ان اشعار جلجامش وأمطارها هي مثابة خيط من الخير المثلث يتعذّر على أي أحدٍ قطعه.

هكذا كانا، منذ شبابهما، حتى ابيضتْ أوداجهما بياضاً تاماً. ظلّ كلّ واحدٍ منهما قاموساً يكشف عن معنى الآخر.

ما وجدتهما منعزلين عن بعضهما ولا عن الأصدقاء الآخرين. كل واحد منهما يجد نفسه بفصلٍ واحدٍ مع الجميع.

أينما يذهب سعدي او مظفر فأن وجهيهما لا يكتسيان بشحوبِ الغربةِ لأن احتدام الاصحاب العراقيين، حولهما، قادرٌ على ردِّ الشحوب إلى نحره.

كان كلُّ واحدٍ منهما يؤمن أن صخرةَ اتكّائهِ وحصنه هي أرض يجري فيها رافدان لا يتزعزان ولا يتخلخل كمُّ الماءِ فيهما. سعدي ومظفر يستندان الى حائطٍ واحدٍ، هو حائط الشعب العراقي.  يبتهجان في الاتّكاء عليه ومواصلة الإبداع من الاشتياق المشترك إليه لأن ابداعهما المشترك هو خير جماعي، مشترك.

كلُّ واحدٍ منهما يُعِين الأخر والجميع من أبناء الجيل المشترك.  مجموعة الجيل والدهر والأبد من أصدقاء مظفر نجد نفوسهم بتعاونٍ كاملٍ مع مجموعة الدهر والأبد، السعداوية.

كلهم، يشكلون رقماً واحداً بين شعب العراق وشعوب العالم المتحدة، كلها.

يرتقون الى ما فوق مدارجهم، خطوة، خطوة، بأخوة مشتركة.

هذه هي حكمتهما المشتركة.

ما وجدتُ لدى مظفر النواب حين كنّا في النقرة او في سجن الحلة المركزي أية رغبة لتكوين حاشية واتباع.

قبل السجن المشترك عرفتُ ان صديقه الشاب الأديب سعدي الحديثي، مهتم بالترجمة الأدبية من اللغة الانكليزية الى اللغة العربية. كما كان مشغولاً بدراسةِ كل ما يتعلق ببحر الشعر العربي من الكامل والوافر ومن جميع البحور. لديه تصميم وعنده إصرار ان يتابع ما تشمخ به اللغة الإنكليزية، لتكون له ترساً لغوياً في انتصاره على جوانب صعابها حين يحوّل بعض مقالاتها او كتبها   الى اللغة العربية. كان أفندياً بغاية الاناقة، ملمٌاً، تمام الإلمام، بكل شيء عن قومهِ في الصحراء الغربية وعن جميع صفات ومواصفات البدو الرحل. كيف يعيشون تحت حرارة الشمس الصيفية، حيث تغرز بأجسادهم ما يقطع اللحم والحركة..  تتثاقل غيوم شتائهم وتتراجع أمام الأحاديث عن كل شيء في البادية، جزءاً، جزءاً وعن كل انسان فيها، فردا، ً فرداً وعن قصص الحب واغنيات المحبين. عن النوق وعن الآبار، المائية ثم النفطية، عن كلِ ما يُؤخذ او يُعطى من حقوق البدو والفلاحين في أعالي الفرات.

تحتّم على كل من الاثنين مظفر النواب وسعدي الحديثي، ان يجدا صفةً مشتركةً، اخرى، في أعماقهما يجرون، بها، توازناً، ليس بينهما فحسب، بل أوجدتْ هذه الصفة بين أصدقاء كل واحد منهما. كان مظفر النواب لا يريد ان يكون شاعراً ينظّم شعره من اجل المال، كما وجد سعدي الحديثي انه لا يكتب مقالاته من اجل الحصول على المال. ابتعد كل واحدٍ منهما عن هذه الأخلاقية، اخلاقية التعيّش ببيع الكلام. هذا جعلهما من الشريحة الثقافية المعارضة للسياسيين المشبوهين ولأحزابهم المرتبطة بالدولة، من دون ان يتفقا على هذا المبدأ - العار. كما كان الكثير من الشعراء والكتاب يبيعون نتاجهم من اجل ارضاء الدولة وحكامها. كان هذا الأمر قد رسخ في حياتهما قبل ان يتصادقا او يتعمقا بصداقتهما.

اختزل الزمن مصادفات ليس لي بها اي علم او تفصيل فجمعتْ صداقةٌ من نوعٍ خاصٍ بين ابن البادية الغربية، المعبر عن روحها الثقافية، سعدي الحديثي، مع ابن المدينة الدينية، الكاظمية بجانب الكرخ من بغداد المدنية، مظفر النواب.  كان صوت كلُ واحدٍ منهما، يحب الشراكة مع صوت الآخر، في الغناء المشترك وفي فنون الإلقاء الشعري، المؤثّر، المشترك. جمعتهما صداقةٌ نموذجيةٌ، لا اقول انها بعمق صداقة كارل ماركس وفريدريك انجلز ولا تتعدى محبة نلسن مانديلا للمهاتما غاندي. لكن بإمكاني القول ان صداقة الشابين الأدبيين مظفر النواب وسعدي الحديثي مثل صداقة البحر الشعري (الوافر) مع البحر الشعري (الكامل) ... كلاهما يوفران ويتكاملان، معاً. كلُ واحدٍ منهما يضمن بفعاليةٍ مشتركةٍ، زيادة معناه الى صاحبه. كانا يرغبان في إعطاء الصوت الواحد بفعاليةٍ مشتركةٍ، واحدةٍ. حين غنّى سعدي الحديثي قصيدة الريل، بوجهٍ جذابٍ وصوتٍ جذابٍ وانفعالٍ جذاب. كانت مكارم اخلاق الواحد منهما تضيف إلى الآخر ما يجدد وجوده بين الناس. كل واحد منهما يرى نفسه هو الآخر. اول شيءٍ وجده سعدي الحديثي ان صوته الليّن قد وجد الأرض الغنائية الليّنة في مفردات قصيدة الريل. تدرّبتْ القصيدة على صوته وصارت المأوى لوجودهما المشترك في أي مكانٍ بالعالم.

بدايةً من بعض لقاءاتهما قبل ان يخسف انقلاب ٨ شباط عام ١٩٦٣ ارض ثورة تموز. اراد الفاشيون ان يغدو كل مناضل ثوري، ذليلاً أمامهم، بعد ان نال عز ثورة ١٤ تموز. كان أول المرميين بالسهام الفاشية، المشتركيْن بموهبةٍ اسمها الريل وحمد. صاغها مظفر وغنّاها سعدي.

كان انتاج قصيدة (للريل وحمد) قد جاء تغيير نمطها، بالتغيير الشامل، شكلاً ومضموناً، متحركاً في النصف الثاني من القرن العشرين. كل شيء يتحرك، كل شيء يتغير، كل هدف يتغير. هكذا قال ويقول خبراء رأسماليون كما كتب ويكتب اساتذة جامعيون في لندن.. كذلك حاضر ويحاضر   ماركسيون عرب وعالميون على منصات الأحزاب الشيوعية وجامعات الدول الغربية.

كلهم اجمعوا ويجمعون على أهمية حديث الانسان على الاختيار بين الحرية والتنظيم، بين تضييع الانسان واستعباده، بين الوضوح والجهل. 

 

إذاً لماذا لا يتغيّر تكنيك القصيدة الشعبية العراقية، وتكتيكها ...؟ لماذا لا يلجأ الشاعر الماركسي مظفر النواب الى تغيير وجه القصيدة الشعبية، طالما تتغير الظواهر السياسية والاجتماعية.

سؤالٌ تكميليٌ آخر: أين يجد الشعراء الشعبيون موجهات هذا التغيير المنشود ...؟

جاء جواب قصيدة الريل لتقلب تكتيكات القصيدة الشعرية، الشعبية، على يد مظفر النواب، كي يجعل جميع الشعراء الشعبيين، العراقيين، مطمئنين على مستقبل فنونهم الشعرية، بعد حالة القلق والجمود، مهددةً بانكسارِ الشعر الشعبي او خوَفته، خاصة بعد التحولات والمعطيات الشعرية الفصحى، المخترعة تغيراتها في اشعار نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي.

تفجّرتْ ابداعية الشعر الشعبي المظفري لإحراز نصرٍ مركزٍ على تربية الحرية في الشعر الشعبي وكائناته الحية في قطار الليل. اوغل في البدء بها مظفر النواب وتبعه جيلٌ كاملٌ بأصواتٍ متهدجةٍ بثقافةِ التجديد والتحرر من القلق والجمود.  بدأ التجديد في كرخ بغداد، لكنه لم يتوقف تحرك داخل المدارس والكليات وخارجها. كما وجد شفاهاً في جميع الأرياف والصحاري العراقية، منتقلة إلى نفحاتِ الشعراء العرب، أيضاً.  كما أسرع الأدب الإنكليزي في التأوّه والتنهّد شوقاً لمعرفة ما احدثه الشاعر العراقي بالشعر الشعبي من خلال الفعل الشعبي. أسرع، بعضهم، بدعوةِ مظفر النواب لزيارة لندن عاصمة النشاط الثقافي العالمي، للتعطّر ببعض اطياب الشعر الشعبي العراقي ومثول قصائد الريل وحمد وصويحب وحزن وغيرها في مدينة لندن.   

انهيت معاملات سكني، لاجئاً سياسياً، في الدولة الهولندية الديمقراطية، وحصولي على شقةٍ سكنيةٍ في لاهاي، عام ١٩٩٧. هكذا نَبَتتْ، نفسي، غصباً عليها، في بلادٍ تخلو من منابتِ النخيل. لكن تقطيع أراضيها منسوبة، في عينيّ الى مدينة البصرة، حيث بين نهرٍ ونهرٍ نجد نهراً. الوشائج بين غطيطات الناس في البصرة ولاهاي كثيرة، وفيرة، اسعدتني بالرغم من انكسار روحي في غربة قسرية.

بدأتُ التفكير بزيارةٍ سريعةٍ الى العاصمة البريطانية، لندن.  كانت المكالمات التلفونية متواصلة بيني وسعدي الحديثي. مسافة الطائرة بين مطار أمستردام اسمه (سخيبول) ومطارٍ في لندن اسمه (هيثرو) لا يزيد على ساعة واحدة بطائرةٍ، صغيرةٍ، تزقّ نفسها فوق بحارٍ وبحيراتٍ وغاباتٍ، كلها من فضائل الجمال.

كادتْ ليلة الثلاثاء أن تنتصف حين رِنّ جرس تلفون البيت. كان المطر الهولندي موّاراً، منهمراً، مدراراً.

لم أواجه، بتلك اللحظة، احتمال ان صوت سعدي الحديثي هو المتكلم بلحظةِ توجهي نحو رفع سماعة التلفون.  

تحوّلتْ صوفية التوقّع إلى محاسن كلامٍ واقعيٍّ وإلى رؤىً جميلةٍ مع صوت تلفون صديقي الكريم، سعدي الحديثي، يخبرني فيه ان يوم الجمعة القادمة سيكون حُرّاً بما فيه الكفاية لقضاء يومِ سعيدٍ بلقاءٍ فيه الكفاية مع صديقنا العزيز مظفر النواب.

هذا الخبر اوقفني أولاً، ثم استغرقني، ثانيةً، في رغبة التمتع بسعادةِ اللقاءِ مع مظفر النواب بعد انقطاعٍ اجباريٍ، يقارب الثلاثين عاماً.

 انتزعتُ نفسي من الفرح، بادئاً الاستعداد لإرضائها بحريةِ الانتقال عابراً سماء (بحر المانش) وتحديد زمان اللقاء مع سعدي بمطار هيثرو، قريباً من لندن.

وصلتُ الى المطار الإنكليزي الساعة الخامسة مساءً. يوم من ايام أواخر عام ١٩٩٩ او بداية عام ٢٠٠٠. صارت بعض ذاكرتي خسيسة بلحظةٍ من لحظات الكتابة والتدوين.

كان للوقت قيمة كبيرة من السعادة، في ذلك اليوم، كأنه يوم عيد تأسيس الحرية في حياتي وبيتي. 

ذاك هو سعدي الحديثي مع زوجته (نوال البربوتي)، سيدة الفن والثقافة في الدارة الحديثية – اللندنية. ينتظران خروجي من ممرِّ المطار. حملتنا لحظات الفرح والمعانقة، تعبيراً عن السعادة الأخوية. ثم توجهنا نحو السيارة السعدية (فولفو) كي تقلّنا الى دارٍ في وسط لندن، عرفتُ انها تعود الى وجيهٍ من تجّار العراق، الكرماء، المقيمين في لندن. كان هذا التاجر العراقي - اللندني   قد استقبل صديقه النواب في بيته.

حين دخلتُ الى البيتِ وجدتُ قبالتي، صانع حركة الشعر الشعبي وصائغ الجرأة الشعبية. خطوتُ واثباً كوثبِ الشوقِ في خطى مظفر النواب. كنّا بمنزلة المغتربيْن يتلاقيان بعد فراقٍ قرابته حوالي ربع قرن.  خطانا المشتركة ليست، الآن، تحت شمسٍ عراقيةٍ، حارةٍ ولا تحت مطرٍ بغداديٍ لا يبللنا في بلدنا إلّا قليلاً.  ها نحن نتلاقى في لندن بكل ما تحتفظ قلوبنا، جميعاً، عن ذكرياتِ واقعيةِ سباتها العميق أزاء حقوق شعبنا وانسانيته   في العيش الحر الكريم.

ها نحن نشغل خطانا نحو العناق بوسم الكلامِ الطيب. بحضورٍ مكثفٍ من بضعةِ أصدقاءٍ، من الرجال والنساء، هم صاحب البيت وسعدي الحديثي وزوجته نوال والضيفتين المتميزتين، ميسون الدملوجي وميسون الباجه جي.. كان أولهم مظفر النواب، الجالس قرب الباب الداخلية لحديقةِ البيتِ الخلفية، ثم احباب أربعة اخرين، صمتتْ ذاكرتي، الآن، عن استرجاع أسمائهم. كلهم يشكّلون جمعاً تأصّل فيهم جذرٌ عراقيٌّ وازدهروا، متكاثرين، في بلدانِ الشتاتِ والغربةِ قادرين أن يصنعوا كل هذا الفرح.

 لم أكن، مصدقاً، ما حلّ بي من فرحٍ شديدٍ في يومٍ من أكثر الأيام خيراً وأسعدها. تبادلنا الكلام السريع عن كلِ ما يتعلّق بالوطن واضطهاد شعبه من اعدائه، في الداخل والخارج، يضاف إلى مقاصد اعدائه المتنوعين وسلب عافيته بالحصار الاقتصادي، بما هو مضمور من أنواعِ النفاق السياسي – الاقتصادي المصاحب له.  وقعتْ أمامنا أحاديث ليلة كاملة من الثامنة، مساءً، حتى الخامسة، صباحاً. كان فيها ومنها أحاديث مكتئبة ومسرورة، عن ماضي النضال الشعبي في العراق وما وقع على شعبنا من ظلمٍ ومن ارتدادٍ الى وراء ومن غمورِ الوطن بمرأى العدو المنتقم، العدو الأوربي والأمريكي وغيرهما.

تطرّقتْ أحاديثنا الى كل شيء في تلك الليلة بجد أحيانا وبهزء وسخرية أحيانا أخرى.

جرّتنا الأحاديث او دفعتنا او قادتنا الى استعادة ذاكرة الشعر، منذ عصور الأدب اليوناني والروماني وعصر النهضة. ما نسينا عجائب وغرائب شعرية، قديمة وحديثة.  ما نسى سعدي الحديثي التطرق الى قضايا الترجمة من الانكليزية الى العربية مؤكداً أن اغلب ما يُترجم ينشر، لا يعني بالدقة والوفاء التام إلى الأصل الأجنبي. كما تحدّث عن قصور المترجمين من العربية الى الأجنبية.. أنهم بترجماتهم، متراجعون، عددياً ونوعياً، غير ملتزمين بمذهبٍ نوعيٍ، محددٍ، من مذاهب الترجمة.

كانت ليلة ليلاء موصولة بجوانب مهمة بموضوعات ونواح فنية كثيرة.

لكن لم يكن بين أحاديثنا أي حديث عن تراب قرية (أم شامات) المتسلل، بنظافته ونقاوته، إلى فاركَونِ قطارِ الليلِ وحكايا الظالم (حمد) ومذلة محبوبته، حيث وُلدتْ قصيدة (الريل) شعبيةً بكل مبناها ومعناها، غير انها فصيحة من فصائح التصاق شاعرها بالأرض العراقية.

لم يكن متعمداً نسيان التطرق الى قصيدة الريل وحمد، بالتأكيد.

 لكن ربما ترنحنا او ابتعدنا من كثرة ما تناولنا من المأكولات العراقية، المتنوعة، من اللحوم الحمراء والدجاج والأسماك، المقلية والمشوية. اعتصمنا بها وبالمشروبات الطيبة، حتى أصابنا النسيان عن رؤية الكلمات المختومة بإمضاء مظفر النواب.  

انتهتْ الليلة اللندنية بما وقع عليّ من سرورٍ عظيمٍ، استمر ماثلاً أمام عيني، زمناً طويلاً، مثيراً جلال وبهاء اقتحام الذكريات لمصادفات المكالمات التلفونية مع مظفر النواب، في بيته، او في صحبة بيوت الأصدقاء والرفاق القدامى، بفترات الليل المبكر إذا جاءتني المكالمة المظفرية من فرنسا وإنجلترا او من لبنان وسوريا. في أحيانٍ أخرى تأتي المكالمات في الفجر المبكر، أذا جاءت من أمريكا او كندا او استراليا. بكل الحالات والأوقات يموج السرور عندي ويهيج الحبور، ظافرين، كلينا، بصوتٍ يزيّن اسماعنا بذاكرة الوطن.

   لم يخالف أي واحد منا أو يختلف مع آخر، في هذا اللقاء اللندني السعيد، حول تحديد أساليب وإمكانيات صعود الشعب العراقي نحو الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي المنشود، بعد ان يتخلص العراق، كله، والعراقيون، كلهم، من دكتاتورية نظام صدام حسين. أول شرط فرضناه على أنفسنا بتلقائيةٍ ورضا هو المساعدة من بداية التغيير على أن يُخلق شعبٌ عراقيٌ، جديدٌ وأن تتأهب نخبة حاكمة جديدة، ليس للانتقام من الحكام الظالمين السابقين، بل الى العمل والبناء والتسامح الاجتماعي، للتخلص، سريعاً، من عصرِ ركوبِ البغالِ، منتقلين الى عصر الثورة العلمية التكنولوجية، الثورة المعلمة كيف تتعلم الشعوب قيادة أنفسها بنفسها عليها ان    تعرف كيف تأكل وتشرب وتلبس بمقدار.. عليها أنتاج هذا المقدار وأكثر منه، حتى لا يشكو اي عراقي، بعد التحرر من فأس الدكتاتورية، من حاجةٍ الى طعامٍ وشرابٍ وكساءٍ في بلدٍ فيه عواسل متنوعة الأنواع بخلايا، تحت الأرض، مثل خلايا النحل فوقها.

أجد نفسي، هنا، اليوم، بعد عقدين من عمر ذلك اللقاء وقد ضاع عقدٌ ونصف منها، بقبضاتِ فروعِ الطبقات القبلية، من أحزاب الإسلام السياسي، المحظية بالتربع على عرش الحكم منذ عام 2003 حيث تعاقب الفاسدون والناهبون، من مواليد الفساد المالي والسياسي، مضيعين، كثيراً من ثروات شعبنا وأمواله، لتستوطن في البنوك الأوربية والأمريكية، من اجل شراء عماليق العمارات، حالمين ان يصبحوا عماليق من سكان العواصم العالمية الكبرى.

أرى ان ليس من صحيح الأمور ان نبتعد عن الوحي الفني، وحي ارتباط   الفن والأدب بخيوطِ قصيدة (للريل وحمد) بعد حوالي 6 عقودٍ من اطلالتها على فضاء الشعر الشعبي..   أرى أن لا بدّ من ادّعاءٍ متواصلٍ مع (الريل) الذي يشدو اجدادنا واباؤنا بحركته الأثيرة لدى جميع الأخوة والأبناء.   لا بد من مواصلة الاحلام حول هذا التواصل.  بمعنى من المعاني الأخرى أرى عدم الابتعاد عن جوابٍ خاصٍ جداً أمام سؤالٍ خاصٍ جداً، هو: هل بالإمكان النظر الى عينِ مظفر النواب وتجربتها متطابقة مع عيون السينمائيين ...؟ أو هل تتلاءم قوة النظر في قصيدة الريل وحمد، مع القوة الإنتاجية، الفنية، السينمائية ...؟ 

كنتُ وما زلتُ أريد جواباً حاسماً على سؤالٍ: هل يمكن ترقية السينما إلى مصاف الشعر أو ترقية التاريخ الشعري إلى مصاف الإنتاج السينمائي ...؟

اختصر تنازعي مع نفسي لأسأل مباشرةً: هل بالإمكان تحويل الريل وحمد الى فيلم سينمائي قصير أو إلى مدونةٍ وثائقيةٍ بمعنىً من معاني الاحتواء ...؟

ربما أحد المعاصرين يحتج او يعترض على فكرتي التلقائية، التي أرى فيها ومنها، أن يبادر سينمائيّ طليعيّ في النظر بروحِ الإبداعِ الطليعي، لتحويلِ قصيدة الريل، الطليعية، من ابداع شاعر طليعي، مظفر النواب، إلى فيلمٍ سينمائيٍ بمشاهدَ طليعيةٍ، مهيبةٍ، جامعة بين عين الكاميرا ومطر الشعر الشعبي.  أملي ألا ينهض أحد واقفاً بالاعتراض أمامي، لأنني اطيع، تمام الطاعة، قواعد واسس انضباط مشاهد العين السينمائية والمطر الشعري.

انا على علمٍ تامٍ، ان حرية الشاعر النواب كتبت قصيدة شعبية.

لم يكتب قصة سينمائية،

ولا سيناريو سينمائي.

ليست مسرحية بطريقةٍ شكسبيرية،

ليست رواية عربية فيها غضب او سخط نجيب محفوظ.

كما انني لا ادعو، هنا، الى اختيار ما لا يمكن اختياره في الإخراج السينمائي.

دعوني أواصل الحديث عن الاستغراق في عرض القصيدة سينمائياً.

أظن ان مخرجاً اسبانياً او من تاهيتي او من بخارست، لو اطلع اي واحد من هؤلاء على القصيدة الشعرية لوجد رؤاها مبنية على نظرية (العين السينمائية). شيء مهم التذكير، هنا، أيضاً، بما يمكن ان يفعله اندماج العين الشعرية مع العين السينمائية، كما استطاع فعله السينمائي الإيطالي الطليعي فدريكو فيلليني عام 1972 في انتاج فيلم بعنوان(روما) حوّله إلى قصيدة انطباعية، كما قال الكاتب السينمائي الأمريكي (أي فوكل). هذا المخرج استطاع، من خلال فكرته البسيطة في عرضِ مئاتٍ من الصور المتقنة، بتصاعدٍ ايقاعيٍ، حتى انه اظهر بابا الفاتيكان دمية متحركة.

في ذاكرتي ان هذا السينمائي اخرج فيلماً مأخوذاً من نتاج الشاعر الأمريكي ادكار الن بو. 

كذلك اود تذكير السينمائيين العراقيين بفيلمٍ عنوانه (بداية حياة) عام 1968 حين اوجد مخرجه، الصلة الفنية، وصلة المعقولية المذهلة، في مراحل متنوعة من نمو الجنين، مما جعل المشاهدين امام قصيدة رائعة.

لا بد ان اؤكد قصدي بأن أسطورة الريل وحمد هي شكل من أشكال الرغبة في الحرية وتوسيط الكفاح ضد الجبرية الإنسانية.

ان العين الشعرية ليست متذبذبةً في نظر العين السينمائية وليست عابثةً في جوهرها وليس من الصعب هضمها واستيعابها.

معنى ذلك ان العين السينمائية يمكن ان تنظر بها إليها.  نظرة جديدة متحفزة بتحويلِ الكلامِ الشعري الى مشهدٍ سينمائيٍ يعبّر عن فرحٍ غامرٍ بعد معاينةٍ فنيةٍ للزمان والمكان بحيويةٍ فنيةٍ، عظيمةٍ وبشجاعةٍ، مندهشة ومدهشة، لا يتلاشى أمامها (حلم) العين السينمائية ولا يضمحل فيها (أثر) ابصرته العين الشعرية.

لا ارغب بالحديث عن غريزةٍ إنسانيةٍ معينةٍ. معنى ذلك، أنني لا أحرّض نفسي على احتمالاتِ الوقوع في حفرةٍ من حفريات الخطأ. لكن بإمكاني الحديث، فرعياً، عن إمكانية توحيد نظرتي بالعدسات المزدوجة (MULTI fOCUS) من اجل ان تكون عيناي قادرتين على تحريك أية عيون سينمائية لتحويل قصيدة الريل وقصة فتاة حمد إلى صورٍ سينمائية - فلمية طولها نصف ساعة أو أقل.  لا أدعو إلى انتاج فيلمٍ بطريقة كلاسيكية، كما لا أدعو الى انتاج فيلمٍ سيكولوجيٍ يتضمن طريقةً من طرق التحليل النفسي لصياغةِ حبٍ دغشٍ وعشيقٍ   داغشٍ أو مدغوشٍ، مصنوعاً من العاشق الدغشاوي (حمد)، لكن يتضمن كيفية معالجة الانقسام بين الوعي واللاوعي في علاقة الحب. كل معالجة فكرية تبدأ من النظر بعينٍ ثاقبةٍ الى اللاوعي لتجاوزه، اي نفس الفعل التأملي بمعالجة مظفر النواب لعلاقات الحب في قصيدته للريل وحمد.  يمكن ان يساهم سعدي الحديثي، الباحث، في اللامركزية الغنائية وعلاقتها بقضايا الحب في الأدب الشعبي او في الموقف المركزي المتميز بينهما، خاصة ان سعدي الحديثي ملم ٌ بالكثيرِ من حكايا العشق والحب في الصحارى الغربية، حواليْ مدينة (حديثة) على نهر الفرات مما وقع بين ضجيجِ عاشقٍ بدويٍ وصموت بدوية.  أينما يستدير سعدي بذاكرته فأنه يسترجع قصةً تفصيليةً، متحولة الى اغنية، يعرف أصول تفاصيل مفرداتها الموسيقية.  كما انه قدير جدا في تثبيت سبائك توزيعها الموسيقي.

هناك الكثير من أفلام سينمائية جرى التعاون في انتاج نصٍّ، مُعتمدٍ في إخراجه بين (شاعر - اديب) و (سيناريست - سينمائي) خاصةً، بما يتعلق بقصص الحب الأوربية في عصور الاقطاعية، المحرومة من التدوين الأدبي بكل اشكاله.   في ذلك الزمان المظلم جسّد الشعراء، أولاً، حالات عذاب المحبين بقصيدةٍ كتبت بالقرن الخامس عشر الميلادي ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي من أفلام القرن العشرين.

كل قضية من قضايا النشاط البحثي، في علاقات الحب وعقول المحبين، تحتاج إلى رؤيةٍ وصفيةٍ..  أظن ان عينيّ سعدي الحديثي ستكون عوناً مناصراً لكل عين سينمائية من الشبان السينمائيين العراقيين،  إذا استهدف أحدهم طوبوغرافيا الحب في (الريل و حمد) بإخراجها الى الشاشة السينمائية ، بطريقةِ الوعي التأملي، من اجل حماية طاقة الحب المكبوت ، حيث كان شعر الشاعر مظفر النواب في قصيدته الشعبية الأولى ، خطوة كبرى في قضية الدفاع عن حقوق الحب ،  المطعون بمركزية التخلف الاجتماعي  ، مما يؤدي الى ا(لحبكة) في حالتي السمو و الغضب ، خاصةً إذا ما كان (حمد) قد التمس الموقف السخي بأفعالِ الشرِّ ضد امرأة متهلّلةً بأملِ انتصارِ الحبِ،  حتى بعد ان غدتْ متعلقةً بدخانِ قهوة (ام شامات) تطيل النظر الى مكانِ حبٍ مآله  النهاية و الفناء  .

من المعروف أن كل عمل سينمائي يتضمن وجود (حبكة).

في قصيدة الريل نجد إنساناً واقعياً متجسداً في وجود امرأة بجوار شاعر القصيدة، على مقعدٍ في فاركَون من فراكَين قطار الليل، تشكو له ظلم الحب.  قال هذا.

من، هنا، نشاهد شرفة مطلة على حبكة.

من، هنا، التحليل، من، هنا، نفهم توأم المنظورين: منظور القوة، منظور الضعف.

من، هنا، التناقض والتفسير وترتيب عمل فيلمي- سينمائي بمعالجةٍ زمانيةٍ لا تتجاوز ٣٠ دقيقة في رحبةٍ مكانيةٍ، اسمهما (ام شامات)، يصنعه رجل سينما حقيقي، بكاميرتها ولغته. ينبغي ان ينبني (فيلم الريل وحمد) على اقتحام السينما لميدان الشعر أو على السماح   باقتحام   الشعر لفن السينما، مثلما اقتحم الشعر منصة المسرح، أو مثل ما قدّمتْ المنصة نفسها وعلوها الى التمثيل المسرحي منذ العصر الاغريقي.

يتمكن الشريط السينمائي، في هذا العصر، أن يتحرك داخل قلبين، حمد وامرأة القطار والصور الحية عن أم شامات.

كتابة قصيدة الريل وحمد، هي كتابة فردية عن الزمان الفردي، المنصهر، بين فردية حبيب وفردية حبيبة، لم تخلو العلاقة الجامعة بين قلبيهما، من ريحٍ عاصفةٍ ولا من غيومٍ كثيفةٍ ولا من نارٍ متوهجةٍ. كائنان حيويان سارا في طريق الحب الواحد ثم توقفت عجلات حبهما عن الاستمرار في الحركة.   امتد ثقل الفراق بينهما بمنتصف الطريق   على راس الحبيبة التي ما زالت رفرفة حبها قائمة مرئية ومسموعة.

اذهبي عني، لا اريدكِ، انتِ شرٌ لا اطيقه.

عاقبتْ المرأة، نفسها، بالهرولةِ السائبةِ، إلى الخلف، على فاركَون الليل السائب، نحو ذكريات ام شامات.

من يدري ...! ربما العين السينمائية تستطيع، بموهبتها، ان تتكشف أسباب صيرورة حمد، ذئباً تتعاظم وحشيته، كل يوم.

الفيلم السينمائي هو خطوٌ تقدميٌ، عصريٌ، يحتمل ان تصير مشاهده، واحداً بعد آخر، عاملاً من عوامل اقناع مشاهديه بحقيقة تدبيرية او سلوكية بما يضمه من صور مختلفة عن تناقضٍ مختلفٍ، عن طابعٍ اجتماعيٍ مختلفٍ، لأن ارتباطَ عينِ الكاميرا بعينِ الجمهورِ، يعني الانتقال الشاعري من العين الفردية الى عين الكاميرا الجماعية، حيث الانتقال من الذاتية الشعرية في القصيدة الى الزمان التاريخي - الجماعي في الفيلم السينمائي. ربما هذه الوجودية تتكشف قيمها، سينمائياً، مما يكشف حقيقة وقوع حب حمد في هوة العجز بما يعيقه عن مواكبة التطور او زمانه.

أملي ان يبادر أحد عيون الكاميراً مستقوياً بالشعر عن مشاعر الريل والمرأة وعن انبهار قرية ام شامات من دغشة حمد.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتبع 20

 

 

 

عرض مقالات: