اتوجه اليوم الى مرقد الدكتور عزيز الحاج، الذي ظل في سنوات عمرهِ الاخيرة يواجه نحيب الُريح بمواجهة كهف الوحدة الانعزالية المريرة .امضي الى مرقده لأكتب بضعة سطور عن انطلاق سفينة احلامه في الشيوعية والنضال والحرية ، بما واجه من رعود وعواصف وبحار عبرها، ثم وصوله الى خريف عام ١٩٦٧متسلقاً تنظيماً انشقاقياً عن الحزب الشيوعي ليصبح ( سكرتير القيادة المركزية - الحزب الشيوعي العراقي) حيث واجه في ضجيجها وفي (قصر النهاية) بالذات، شريعة الخنجر البعثي المسموم بشرعة صدام حسين - ناظم كزار لإسقاط شيوعيته، الى الأبد، وفرض العزلة الجريحة على حياته الجديدة، في وظيفة ممثل العراق في اليونسكو. ربما هذه الوظيفة كانت ضمن رغبات عزيز الحاج، شخصياً، لكنها لم تكن وظيفة حريرية، كما يعتقد الكثير من الناس، لأنها مصحوبة في أعماقه بمزيجٍ من رمادِ وغبارِ احتراقهِ الوجودي، إذ ظلّ وجهه شاحبا، حزيناً.
تعرفتُ الى عزيز الحاج خلال محاضرة سياسية ألقاها بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في قاعة الخلد ببغداد. خلال مداخلة استفسارية، بسيطة، أصبحنا صديقين، خاصة بعد ان وجدتُ نفسي مع اكثرية سجناء سجن الحلة منتظمين في أعشاب القيادة المركزية .
وجدته منذ اول معرفتي به ينهل النور، سريعاً، من المصادر الشيوعية والسياسية. كما تشع حروفه على جريدة صوت الأحرار واتحاد الشعب وغيرهما، سريعاً، ايضاً، بما ينشر الضياء والنور امام قراء مقالاته، التي كانت تفعم الكثيرين بوهج الأفكار السياسية ذات الأعراق الماركسية .
اختارني عزيز الحاج بعد هروبي من سجن الحلة ان أكون ممثلاً للقيادة المركزية لدى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. سافرتُ الى الاْردن مع رفيقٍ آخر من أهالي الناصرية، غاب اسمه عن ذاكرتي في هذه اللحظة. اسكنتني الجبهة في بيت صغير، حديث، غير مكتمل التأثيث، في جبل الحسين. كانت صلتي، مباشرةً، في عمان مع الزعيم الفلسطيني الديمقراطي السيد نايف حواتمه ومع القيادي العراقي قيس السامرائي (ابو ليلى). لم تكتمل مهمتي هناك بسبب حصول معارك الشوارع في (أيلول الأسود) بالمملكة الأردنية، ما اضطرهم لنقلي الى دمشق والبقاء في صحبة الشاعر مظفر النواب لمدة شهر كامل، عدت بعدها الى بغداد لأشاهد تبعثر تنظيم القيادة المركزية وانهيار عزيز الحاج، انهيارا سياسياً، نهائياً، على شاشة تلفزيون بغداد.
قطّع بيديه وبكلام ندوته التلفزيونية فؤوس كبريائه الشيوعي، خلال وقت قصير جداً، من وجوده معتقلاً بأيدي جلاوزة الجلاد ناظم كزار ليفقد لقب العضوية الحزبية الى الأبد. جاء اليه ظلم لم يتوقعه، حين كشف بنفسه او اجبر على ذلك بالظهور التلفزيوني امام ملايين الناس، محتملاً وضعه البائس، معلناً خلافاً لعقيدته، باكتشافه ان الشيوعية التي يدعو اليها الحزب الشيوعي ليست معياراً للإنسان الحر، وان الاشتراكية التي يدعو اليها الحزب الشيوعي هي دار بائسة للبشرية، ما يعني ان اشتراكية حزب البعث هي مقياس الإنسانية..!
ظل هذا التغير في عقل عزيز الحاج يطارده، في كل لحظة، يؤنبه بكل لحظة، يخنق تاريخه النضالي وينهيه نهاية فاجعة بعقاب سياسي لا مثيل له، جعل حظه الأخير منعزلاً بشقة باريسية، مستنداً الى عصا الشيوخ، تحمل ساقيه المتحجرتين الى منضدة صغيرة يكتب عليها مذكراته النافية حسرته، على الجزء الاول من سيرته الذاتية. جعلت مقاييسه الجديدة خلال ربع القرن الأخير من حياته في العودة الى حالة من حالات الماضي الشيوعي بانتقاد نفسه نقداً جريئاً، برفع قلمه ومحبرته لممارسة إحدى أهم الصفات الشيوعية بـ (النقد الذاتي)، مؤكداً قدرته على ملامة نفسه بنفسه في غمار دعواته الى حرية الشعب. لكن ليله المبلل بذكريات قصر النهاية، جعله عاجزاً، كما اخبرني اكثر من مرة، عن مقاومة مسامير تعذيب الجلادين لرفاقه في تنظيم القيادة المركزية، بذلك القصر الملطخ بدماء الجرائم المترامية في امتدادها على الشيوعيين العراقيين. لذلك مضى به قصر النهاية الى الانهيار والنفخ في اْبواق نظام صدام حسين حفاظاً على استمرار حياته وعلى بقاء صوت أفراد عائلته حياً، حتى ولو في ارض عارية، مجروحة به ومطعونة بتخليه عن رحاب النضال الشيوعي في ايام شبابه.
كان عزيز الحاج نموذجاً خاصاً من مثقفي الشيوعية. صلباً في البداية، منهارا على الارض السياسية في متوسط حياته، محاولاً في النهاية ان يقبض بيديه سوطاً يجلد به نفسه جلداً قوياً ليبث الروح في حياته المنكسرة .
عزيز الحاج مات جريح الأعماق، في عتمة الغربة عن الوطن وفي وضع العزلة عن ربيع النضال، حيث يواصل الحزب الشيوعي العراقي سيرته الذاتية بين جماهير الكادحين العراقيين، بصوت مترامي الأبعاد في السياسة والثقافة والفنون، مواصلاً وهج الشجاعة في زمن الشجاعة وامثولته شجاعة الشبان المنتفضين السلميين المرتقين فوق جبال النضال.
اخيراً اقول:
هلم الى دارك الابدية، أيها الصديق، فأنت انتميت الى زمان ثوري وتخليت عنه بكآبة ومشقة زمان غائر .
أردت ان تهرب من الشمس في آخر مرحلة من حياتك بوسيلة التشوق الى جلد نفسك وتطبير ضميرك، توّاقاً، بجنون، الى نيل سماح بني الانسان العراقي والشيوعية العراقية.
غادرتَ الحياة بعد ان ألقيت نظرة على التاريخ في جميع ما كتبته قبل موتك، لتتوسد الحياة المسلوبة منك، مؤمناً ان الحياة ليست سوى مسألة شرف، مهما كانت نيرانها ملتهبة .
وداعاً ، عزيز الحاج ، تحت الثلج الباريسي الحار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 22 كانون الثاني 2020

عرض مقالات: