يقرر أصحاب المعجمات العربيّة أنَّ العنف في اللّغة ضدّ الرّفق، أو قلَّة الرّفق بالشّيء، فإذا كان الرّفق هُو اليُسْر فِي الأمور، والسهولة في التّوصُّل إليها، فالعنف خلافه وهو التّشدِيد في التّوصُّل إلى المطلوب، تقول عَنُفَ يَعْنُفُ عُنفًا فَهُوَ عَنِيفٌ، إذا لم يرفقْ في أمره، وجعلوا من ذلك عُنْفُوَانُ الشَّبَابِ، وهو أوّله، أو أوّل بهجته (العين للفراهيديّ:2/157).
ومن المعلوم أنَّ العنفَ اللّغويّ من أبرز مقوّمات لغة الهجاء والشعر السياسيّ، فقد جرتِ المعارك الأدبيّة الشعريّة بأسلوبٍ بالغِ العنف، مليءٍ بالهجاء المقذع؛ وحرصَ الشاعر فيها على إيجاد صلة بينَ اللّغة والموضوع الذي يتناوله؛ لأنَّ للشعر أغراضاً متباينةً، وكلُّ غرضٍ منها يستلزمُ وجودَ ألفاظٍ تُحقق نوعًا من التَّماكنِ والانسجام، وتُبعد الانفصال والتَّباين، فيتعاضد الغرضُ والألفاظ.
وتمثّلُ لغةُ الحربِ والقتال تجسيدًا واقعيًّا للعنفِ اللّغويّ، فالحرب أقصى غاية العنف، وتمثّلها في الشّعر يجعلها أكثر عنفًا، و" لم يكن حديثُ الشاعر عنها عابرًا، وإنّما هو حديث الإجلال والتّقديس والإعجاب بكلِّ جزء من أجزائها وبكلِّ ميزة من ميزتها، ولا عجبَ في ذلك؛ لأنَّ السّلاح رمز تنطوي تحتَه كثير من المعاني، ورفعه فوق الرأس من أسمى آيات الاحترام، وتحطيمه يعني الضعة والذّلّة، وتسليمه يعني الخضوع والمسكنة" (الفروسية في الشعر الجاهلي، نوري حمودي: 168)، ولا غرابة في ذلك لكنَّ مكمن الغرابةِ والعجبِ في استعمالِ ألفاظِ الحربِ والقتال والسلاح في شعر الغزل؛ فمن المعهود أنَّ الشاعر حين يكتب قصيدة في الغزل تكون ألفاظها مختلفة عن القصيدة التي يكتبُها في الهجاء؛ لأنّه في حال يدعو إلى استبدال الكلمة الحادّة بكلمة أقلّ حدةً وأكثر رقّة، فالغزل يدعو إلى تلطيف التعبير، وتحسين الألفاظ وترقيقها.
وقد يمزجُ الشاعرُ العنفَ باللّين والرّفق، فيكون في حديثه لياقة ودهاء، فيستعملُ ألفاظَ العنفِ للتّعبير عن معاني الرّقّة، فيجعل اللّفظ (العنيف) رقيقًا، أو يشقُّ لنفسه طريقًا يبسًا، بين الشدة واللّين، وبينَ العنف والرّقة، فيوظّف العنفَ توظيفًا عكسيًّا، وهذا ما يتّضح بجلاء في معلقة عنترة، حين يقول:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ
مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي.
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها
لَمَعَت كَبارِقِ ثَغرِكِ المُتَبَسِّمِ
وذلك أنَّ الرّماح وبيض الهند والدّم والسّيوف من ألفاظ الحرب والقتال، والشّاعر يجترحُ منها معنًى جديدًا، يضّمُه إلى قاموسِ الغزل، ويفتح الباب لفنٍّ جديد، ويدعو الشّعراء إلى النّسج على منواله، فيذكرُ آلاتِ الحربِ وأدواتِها، ويصوّر علاقة المحاربِ بمحبوبتِه؛ إذ تتراءَى له هناك، حيثُ ضجيجُ المعركةِ يدوّي في الآفاق، وأصواتُ الشّجعان تتعالى لتخفتَ صوتَ الموت.
ومن بينَ تلك الحالة التي لا توصفُ إلّا بالمشاهدة العينيّة ينبري شاعرٌ يقبّل سلاحه كونَه تذكارًا للمحبوبة، متأثرًا بسابقه، ومؤثرًا في شعراء جيله، متخذًا طريقَ العنف، أو قل اللاعنف، ليرسم على وجنات المعركة صورةً لصبيّة في مقتبل الحبّ، ويوازن بينها وبينَ سلاحه، فكليهما سلاح يوقيه الموت، ويبعده عن مواطن الهلاك؛ إذ يقول عبد السّلام القصّاب في قصيدة نشرها على يوميّاته عام 2015م:
وكنتُ إذا ذكَرتُكِ ذَاتَ بَأسِ ...
وَشَقَّ عَلَيَّ وَصلُكِ يا صَبِيّة
أُقَبِّلُ غيرَ مُلتَفِتٍ لِنَفسِي ...
مِرَارًا عَنكِ ثَغرَ البُندُقِيّة
وَأحضُنُها وأُدنِيهَا لِرَأسِي ...
وَأَرشِفُ طَعمَ قَبضَتِهَا النَدِيَّة
تَكونُ تَمِيمَتِي فِي يَومِ نَحسِ ...
تُذكِّرُنِي بِقُبلَتِكِ الشَهِيَّة
وإنَ وَقعَ القَضاءُ وَجِئتُ رَمسِي ...
أُصاحِبُها مَعِي فِي السَرمَدِيّة
فإذا كانتْ أدواتُ العُنف، نحو لمعانِ السيوفِ وبريقها، قد نقلَت الشّاعر إلى جوّه الذي يتوّخاه، وهدفه الذي يتقصّده؛ لتشابهما باللّمعان والبريق، فما علاقةُ البندقيةِ بالمحبوبة؟ ربّما لم يكنْ التشابهُ سببًا في ذلك، فليسَ ثمَّ علاقة بينَ (العنيفين)، وإنّما يجدُ الشاعرُ نفسه في تلك الحال فارسًا فذًّا، وهذا ما يدفعه الى تصوّر محبوبته؛ إذ يرى نفسه كفؤًا لها.