سأبتعد عن الحزن قليلا وأنا في حضرة " صياد الهموم "، في فضاء من أنصهرت أحزاننا وأحلامنا في لذائذ شعره، ووعيه وتفكيره، بل وفي دموعه النازفة وطناً فوضوي القضية وغموض المعنى المستقبلي. كلما أتلوه، أجده آيات لا يدركها إلا صباح يشرق فيه فجر روحه في ملاذات دروب الصحافة والاعلام، والمعاناة والوجع المداف شعرا بهموم أمة بأكملها. وكل ما أريد ان أنساه ، يذكرني به المتعب تحت جدارية فائق حسن، أو في ايقونات أحزان الطريق الى " الباوية "، باحثا عن مفردات تصنع الفرح لكائنات تعيش سرها المكتوم من زمان. هو النبيل، السومري، في توالي الليل حين يهتف صوته، ويوقظ بي شجن وصيحات مفرداته السومرية وعيا شعبيا.

إلك والحيل حيلك يا شديد الحيل...

يا نجمة الغبشه الماطفاها الليل

يا راية نشامه ابساعة الشدات..

لو رفت عزم تگبع وراها الخيل

يا حال العجز منك ضعيف الحال...

هسه الحال حل والمن تريد الحيل

قلائل يدركون حكاياه التي تمتد الى تخوم سمرة الجنوب، متشحة بالوشم المهضوم على بقايا إيام تقطر فقدا وذكرى.على بكائيات " ناي " يفصّل القصيد قطعة تلو الأخرى، وما تراكم وتناثر من سطور بلغة سديمية المعنى.هو الواضح كناقوس في محراب متعبد خلف جدار، بعيدا عن الـ " هؤلاء ". كالوضوء لناسك ثمل أهله وراح في تيه وعري صحراء الصدى.

على العاقل بعد ما يخطف شراع

ولا يخطي الطريده الليث لو جاع

يا شعبي شكثر ضحيت وانطيت

وخبزتك تنعجن بالهم والاوجاع

گاعك تربة الله وخضرتك نور

ونهرانك ولف ما عرفن وداع

يگطعوني عليك وصل وابوس الگاع

وگالولي: تبيع؟ وكلت: ما ينباع

هو قريبا من جدارية " فائق حسن " حيث الكادحين والفقراء، تردد تراتيله المقدسة لهم شعرا ، يحوك الحلم ليقيهم فجر المكائد في مزادات الموت المجاني الذي لا يلاحق غيرهم ، لا لشيء إلا لأنهم سلام الصبح ، ووحدهم العراة إلا من هوية الانتماء صدقا لوطن عجز حتى عن ان يحمي عريهم . وتمر السنين ويسقط نظام الضحالة والوساخة، النظام العفن الذي قتل الشعراء والفنانين والعمال والطلبة والنساء والرجال العرب والكرد الشيعة والسنة، نظام العائلة، بل نظام الخلية السرية التي اضاعت من العراق فرص التقدم والتطور طوال 35 عاما. بعد سقوط هذا النظام جمعنا العمل مع الشاعر الكبير عريان السيد خلف تحت مظلة الحزب الكبير، الحزب العريق، الحزب الشريف، الحزب الشيوعي العراقي وفي صحيفته المركزية طريق الشعب، اتاحت لنا هذه الفرصة اللقاء اليومي بابي خلدون واجتمعنا في غرفة واحدة في الجريدة. وكالمعتاد في كل يوم بعد ان ينتهي الدوام في جريدة الشعب وطريقه القويم نخرج غالبا نحن الثلاثة وكثيرا ما كان ابو خلدون يقلنا بسيارته ولا غرابة في ذلك، لكن الغريب اننا كنا نرى مواطنين في الشارع وفي الاماكن التي نمر بها تبتهج لرؤية عريان السيد خلف اناس تحب ان تلقي عليه التحية واخرون يحبذون اخذ صور تذكارية معه مدنيون وعسكريون في اغلب السيطرات ورجال مرور وعمال وطلبة. قلنا لابي خلدون ذات مرة ما هذه المحبة يا سيدنا؟ ابتسم وقال: هاي المحبة من الله لانه يعلم ان قلوبنا وايدينا نظيفة. فابتسمنا ايضا وقلنا يا سيدنا كأنك عندما تسير في شوارع ومدن بغداد تحمل راية حمراء (ام المنجل والجاكوج)، نرى محبة الناس لك محبة للحزب لانها تعرف انك ابن الحزب الذي تغنت به قصائدك وحفظها الناس عن ظهر قلب. 

امتيازي بكل كَلب مهموم تذكار

وجلماتي اصبحت مثل المناشير

اذا امر بدرب تتزاحم الناس

عليه ويتعب الياخذ تصاوير

وحكَك لا غرور ولا مزادات

ولكن كل حقيقة تريد تبرير

انا نخله البرحي الرفضت تطيح

وعشتك كَاع ما عشتك تصاوير

ربيت بدهلتك وانهارك تفور

دم ودمع وتطول المشاوير

الصكور بكل عزمها تواكح الريح

وتهج بالعاصفه صفوف العصافير

لقد خطف الموت منا انسانا – شاعرا  له على كل لسان قصيدة او اغنية، خطفه جسدا، لكنه لم يستطع ان يخطف هذا الحضور الكبير من ذاكرة العراقيين، لقد رحلت عنا جسدا يا ابا خلدون ولكنك نجم مضيء في سماء الحزب والشعب. سلاما .. أنت البريء، المتشابه مع بعضك، طين حري، نخلة برحي، عميقة الجذر والنسب. اليوم صارت المسافة اليك موحشة، وقد كانت باذخة الجمال، شهية الحوار،في وجداني وذاكرتي. اليوم صارت المسافة خيطا ونهرا من الدموع حيث وادي السلام قيامة وخلود في قلب شعب برمته.

عرض مقالات: