يختلف النقاد والباحثون على تحديد بداية حقيقية واضحة لفن القصة القصيرة جدًّا الآسر والمختلف والصعب في آن واحد، ولعل البعض يختار نصوص ارنست همنغواي القصيرة جدًّا التي نشرها في مرحلة مبكرة وتحديدًا في العام 1925 هي البداية الحقيقية لهذا التجنيس الإبداعي المختلف، لكن لا تتوفر دراسات نقدية حقيقة تؤكد هذه النظرية.
وبغض النظر عمن أرسى قواعد هذا الفن الجميل وأظهره للوجود، فأن القصة القصيرة جدًّا ظهرت في العراق تحديدًا بشكل مبكّر، حسب القاص والباحث العراقي عباس عجاج، الذي نشر دراسة موسّعة عن بدايات هذا الفن ورواده، أغناها لاحقًا الكاتب هيثم بهنام بردى برؤيته الخاصة.
وحسب عجاج فأن بواكير القصة القصيرة جدًّا في العراق تعود إلى العام 1930 عندما نشر القاص الرائد نوئيل رسّام مجموعة من النصوص القصيرة جدًّا، قبل أن ينتشر هذا الفن بشكل أوسع في العراق والعالم العربي. لكن على الرغم من ذلك ظل هذا النوع من الكتابة خجولًا ومتواريًا خلف الانتشار الساحق للرواية في العقدين الأخيرين.
ولعل أبرز أسباب تواري هذا الفن وشحته إن جاز التعبير، هي صعوبته الجمّة وتطلبه قدرة كبيرة على تطويع الفكرة وتكثيفها بواسطة عدد محدود جدًّا من الكلمات، قد لا تتجاوز المائة كلمة، وفي هذا الصدد يقول الناقد العراقي البارز الأستاذ عبد علي حسن في معرض تصديه لهذا النوع من الكتابة ما نصّه "لا يدرك صعوبة وأهمية فن القصة القصيرة جدًّا إلّا من خبر السرد وأفانينه المستدعية المهارة والخبرة والمعرفة لتقديم قص قصير جدًّا يرقى في مستوى تحققه الى مستوى أي نوع سردي متقدم آخر، وبذا فقد تضاءلت الهوة بين المبدعين وبين أي شكل أدبي مهما ضاقت أو اتّسعت مساحته على وفق مقتضيات بنائه الداخلي".
وبالنظر لحقيقته ـ فن القصة القصيرة جدًّا ـ الخادعة، يظن الكثيرون أنّه طريقة سهلة للكتابة ويخلطون بينها وبين الخواطر أو الارهاصات العابرة، من دون الاستناد إلى الأسس النقدية الصعبة التي يتطلبها.
وحسب القاص والباحث العراقي لؤي حمزة عبّاس فأنّ صعوبة هذا النوع من الكتابة تتمثّل في محدوديَّة المسّاحة النصيَّة مقابل اتّساع الحدث الواقعيّ وتشابك ظلاله، فما ضاق من مساحة النّصوص القصيرة وجَد متّسعه في جهة الخيال، وهي تفتح امام النّصوص، مهما اقتربت من مرجعياتها، سبلًا جديدة للإبداع بشحنتها الاستعارية التي تقترب من حدود الشِّعر.
وعلى العكس مما هو في بقية فنون الكتابة كالرواية والقصة، فأن القصة القصيرة جدًّا تتطلب فكرة مركزة وقوّية واستثنائية مكتوبة بلغة متينة لكن واضحة وغير مغرقة بالتفصيلات، إذ تقول فيرجينا وولف، التي عُرفت بنصوصها القصصية القصيرة في مرحلة من المراحل " كلما كانت الفكرة أكثر استثنائية، كلما كانت اللغة أكثر وضوحًا".
إذ يعد التجريب واللغة التفصيلية المعقدة أحد أسباب فشل القصة القصيرة جدًّا أو قصة الومضة
Flash Fiction كما أطلق عليها جون أوبدايك، وهو مصطلح غاية في الدقّة والتركيز، لأن الومضة القصصية تتجسد هنا بالدرجة الأساس في الفكرة الاستثنائية الصادمة التي يقدّمها الكاتب في نص المحكوم بعدد الكلمات والمساحة الضيقة.
ولعل فن القصة القصيرة جدًّا هو فن المستقبل، في ضوء ما نشاهده من تطور مهول للتقنيات التي جعلت من وقت المتلقي للفنون والآداب ضيقًا جدًّا ومحدودًا وخاضعًا للمنافسة الشرسة من بقية وسائل الترفيه والتعليم والتثقيف والتسلية، لأنّه صالح للقراءة في مدّة زمنية لا تتجاوز البضع دقائق، هي في الغالب تلك المساحة الزمنية التي يخصصها القارئ المعاصر في قطار أو حافلة منطلقة إلى وجهته.

عرض مقالات: