هذه الرواية مثل التي سبقتها (قصر الأزلزماني) تشترط على القارىء: محرابَ خلوة ٍ ورياضة َصبرٍ وفطنة َ لبيب ٍ، فهي ليست من الروايات التي يصنفونها  الآن :(حلويات) ولا تبّث خطابها الروائي للقارىء العادي، المبتلى بشبكة العنكبوت، وهي رواية لا يجدي معها قفزات الكنغر، كما يفعل بعض قراء اليوم.. في (حلم عين ) الخيوط :خطوط هادئة ونحيلة لكنها معبرّة كما في لوحات كاندنسكي . وقد تنتسب ( حلم عين ) إجناسيا ً للروايات القصيرة  لكنها من الروايات العميقة التي تشترط عليك بدلة غوص لتعود من رحلتك المائية في (نهر الرملي) و (النهر الكبير) والأمواج المبحوحة صدقا وعدلا في أول إضراب عمالي في البصرة : شهدته بصرة المعتزلة وإخوان الصفا والقرامطة وصاحب الزنج .

(*)

(حلم عين) هي رواية العين الرائية والأذن الصاغية  وكلتاهما تعملان بالتقليم: تقليم لحظة تاريخية مضى عليها نصف قرن بتوقيت زمن كتابتها من قبل المؤلف، وهكذا : (فالعين تقلّم الأشكال والألوان والأذن تقلم الأصوات والقلم وسيلة اكتساب المخلوقات كلها للمعارف ../97- د. محمد شحرور)

(*)

الرسالة الروائية، يثبّتها السارد/ المؤلف في الصفحة  الأولى من الرواية   (أريد أن أحقق حريتي في رؤية أحلامي، أكرر وجودها وقد حدثت في زمان ) وسيكون تحقيق الحلم : كتابة الحلم رواية ً حتى لا يتلاشى وضرورة الكتابة متأتيةمن السبب التالي (..في أرض القهرمان، لايستطيع الحلم الآن،أن يجد له مكاناً في الذاكرة. لذلك يظل معلقا في الفضاء. تتهمه العيون. كأنه الخرافة أو كأنه الخوف كما لو كان يتعذر توقعه ..) إذن فعل كتابة الحلم هي أرضنة الحلم سرديا، ليكون غراسا في ذواكر العراقيين .

وحالم الحلم وهو الحفيد والوريث الذي بات يخشى

من جانب آخر نرى أن السارد لم يكف عن التحديق منذ لحظة وقوع الحدث الطبقي التاريخي حتى لحظة كتابته.حدث ٌ ينافس النجوم في سمائها فالجياع كادوا ينوشون عنان سماء البصرة .ينوشونها بوعيهم الثوري ومطالبهم الإنسانية المشروعة، ينوشونها بمشروطية واعية تتوخى الحذر من استفزاز فوهات الحكومة لها، وهو استفزار ماكر يغوي الحماس العمالي برد فعل ثأري .. لكن الإضراب وتظاهرة الإضراب كان يتحكم بسيرورتها وعي تنظيمي طليعي مشهود له بخبرته النضالية والمتظاهرون بشهادة السارد المشارك (رأيناهم واحدا واحدا ينسلون من فم بوابة المعمل – معمل المسفن البحري... تجمعوا أمام البوابة الحديد،المقفلة من الداخل، التي انكسرت تحت ضغط أجسادهم ، ثم واحدا واحدا – في الأمكنة الترابية – وتحت رؤوس النخيل أو تحت جذوع الاشجار، واقفين وجالسين،أكثر أجسادهم كانت عرضة لعين الشمس. وايديهم معراة. لاسلاح فيها. ولا خشبة أو حديدة. كأنما خرجوا للنزهة، ولولا الأصوات لما تسرب الخوف إلى أجسادنا، عيونهم تقدح شررا ..جماعات دافقة تنشر أشرعة بيضاء، فيها كتابات بلون الدم ..) ثم تطوق الشرطة المضربين بالهروات والبنادق تطوقهم ، وستعلوا أصوات العمال بكلماتهم الصارخة المتقنة السلسة القريبة المعنى ومن الطرف الحكومي ترتفع البنادق متأهبة،أصوات العمال تحمل أشرعة البيض مطالبة بالحبوب من أجل الناس الذين يكابد المرض والجهل والجوع والعري .وبشهادة السارد :(فوق كل رأس عال ٍ خمسا أو ستاً من البنادق )

(*)

الصوت والعين والحلم : هذه المفردات تنتسب للفريق وليس للفرد فالصوت كالحلم والحلم تراه العيون كلها أعني عيون فقراء البصرة الواعين بفقرهم والعارفين بكيفيات تجاوزه ثوريا. أما السارد فقد سكنته ثورية المكان والمكين منذ تلك اللحظة ولم يفارقها أو تفارقه وبشهادته السارد (منذ ذلك الزمن ظلت تركض عيناي نحو الحلم، تقتنص منه عيناي جوهرة الحلم ..مات منا الكثيرون وأنا مازلت أحلم كانوا قد شاركوني في رؤية الحلم)

(*)

ومن جماليات رواية (حلم عين ) انها من سرديات الماء الحي، حيث السفن كالعصافير وطيور الماء، والمياه تجري مطمئنة هادئة هانئة وكان النهر(يفتح فمه بالكلمات ويدعنا نتكلم،نحيط به ويحيط بنا..ألسنتنا تظل تردد،ما المياه تردده، والمياه كانت تغني بأصواتنا..) ياله من نهر بصري رحيم (يزرع الهدوء والفرح واللذة ) لدى الصبية الفقراء في ظهائر صيف البصرة ..

 

(*)

تتواشج التضادات من شعرية الماء الحي إلى فوهات الذخيرة الحية التي تسددها الحكومة إلى صدور العمال المضربين في المسفن

(*)

من ناحية زمن الرواية وليس زمن طباعتها، ترى قراءتي أن (حلم عين) تتناول لحظة تاريخية أقدم من اللحظة التاريخية التي تناولتها(أمس كان غدا) : الرواية الأولى للقاص والروائي كاظم الأحمدي..فإذا اردنا قراءة تاريخية للبصرة في روايات الأحمدي فثمة مقترح أن تبدأ قراءتنا هكذا

  • حلم عين
  • أمس كان غدا
  • نجيمات الظهيرة
  • تجاه القلب
  • قصر الأزلزماني
  • وجه الملك

(*)

ترى قراءتي المنتجة أن القاص والروائي الأستاذ كاظم الأحمدي – طيّب الله ثراه – قام بتدشين نقلة روائية على مستوى الشخصي والعراقي من خلال رواياته الثلاث الثانية : (قصر الأزلزماني)و (حلم عين ) ومخطوطته الروائية (وجه الملك) فهو في هذه الروايات : يعمّق أسلوبية ً جديدة لديه ويصل هذا التعميق إلى مقام البصمة، التي بدأت برواياته الثلاث الأولى (أمس كان غدا) ( نجيمات الظهيرة)( تجاه القلب)

(*)

الفضاء الروائي هو البصرة في رواياته الست وفي مجموعاته القصصية.  وبؤرة البصرة هي منطقة المعقل مسقط رأس الروائي، كأن الروائي يحتمي/ يتحرر من خلال استعادته فردوسا مفقودا، وترى قراءتي، ثَمت ّ وشائج دفيئة بين روايتيّ (أمس كان غدا) و(حلم عين) تجسدها شخصية عقيل في فتوته، أما في (حلم عين) فتتمثل بالصبي . والأثنان يتخفى فيهما الواحد نفسه : المؤلف كاظم الأحمدي .

 (*)

 الزمن ضمن الفضاء الروائي، فهو في (حلم عين ) ينظّف لحظتنا الراهنة من ظلام المختلسين مستعينا بثورية البصرة  في خمسينات القرن العشرين والشخصية المحورية – إذا جاز التعبير -هي بطولة أول إضراب عمالي أضرمه عمال معمل المسفن البحري.

(*)

 تشتغل (حلم عين) على مضرعة الماضي أي جعل الماضي مضارعا حيويا متنقلا، لكن هذه الجعالة ليست وثائقية وها هو السارد المشارك يخبرنا وهو يستعيد لحظة ابتلعها الزمن منذ نصف قرن عراقي من روزنامة البصرة العمالية :(... تحاول عيناي بالضرورة، التحديق. كي لاتكون الرؤية باهتة .لا أتبيّن الملامح،بل أكتشفها إذ يريني الحلم الملامح المشوهة أو ينقلب الحلم إلى الضفة الأبعد الضفة غير المرئية..) والسارد لايتنصل من مؤثرية الزمن على وعيه  وسرده لما مضى، خصوصا وهو يسرد لحظة طبقية من نضال عمال البصرة في المسفن، فهو يؤكد وجود صورة في ذهنه مما جرى وهو في أوئل أيام فتوته (هي في ذهني، تؤلمني تلك الحادثة الصورة في ذاتها، يتأملها الشيخ بعد مرور أكثر من نصف قرن، فيستعيد صباه البعيد، وتحديدا : لحظة قدومه من البيت متوجها نحو أبيه الكادح النجار في المسفن، حاملا وجبة غداء والده . والشيخ السارد هو ذلك  الذي ملأ الفراغات والفصول بالعجائب والفصول وهو الذي أمد المدينة كلها بمداد البحار الدافي، وبصوته الدامي كأعلى ما تكون عليه الأصوات وهو القارىء السامع الذي لا تسمع أذناه إلاّ صوته هو ولن تبصر عيناه إلاّ ظله هو ولا يكون في هذا الزمان إلاّ كائنا : هكذا يستقبلنا الشيخ الجليل في (باب الداخلة) مِن سفر( قصر الأزلزماني) ..وهذا الشيخ هو الراوية والرواية في أرض القهرمان وهو الذي هتك ذلك الستر / السر الثمين : أن صناديق الذهب العائد للملك سيلمان مدفونة بأرض القهرمان وعلماء الآثار الذين تمكنوا من فتح صناديق الذهب (لم يستطيعوا أن يحصلوا على سر وجودها...لم يعرفوا السر../47) في تفكيك  السر يخبرنا السارد عن  تواصل الماضي بالراهن المعيش : (وجدوا فيها من القصص المكتوبة بماء الذهب. ومن عجيب الأمر،أن التوقيعات التي ذيلت الأطراف السفلى لصفائح الذهب كانت كلها – توقيعات ملوك ورؤساء عصرنا – على شكل مقرنصات، كتلك التي تزين أثواب الجواري، أو راقصات الملاهي،لم تكن خدعة، لما دقق النظر فيها، وجدت كتابة، تكاد  تكون موحدة../47- أرض القهرمان)

(*)

حلم عين: هي في أحدى مستوياتها : شهادة الشاهد الأوحد (الحي الباقي من الصبية) بعد أكثر من نصف قرن عراقي، محتدم بشراسة الحكومات والأحتراب والأصطراع بين قوى الحركة الوطنية : يبادر شاهد سارد ضمني وحده بتصنيع مدونة تلك اللحظة من حياة عمال المسفن في البصرة وسوف يخبرنا هذا السارد المشارك :(أليس هو الحلم الذكي الذي اختارني لكي أنقيه من بين كل تلك الأحلام) ولا تتوقف مهمة السارد الشاهد عند هذا الحد ولا تتوقف عند فاعلية الحكي الأولى وبشهادته أيضا (فاحكيه مرارا هكذا) وبتكرار الحكي يتسع قوس الكلام عما جرى في منتصف القرن العشرين على أرض القهرمان / البصرة حين أشتعل أول إضراب عمالي في الميناء،إذ تجمع(مئات العمال وهم يهتفون ويرددون الشعارات والهوسات ثم يصعد أحد العمال واسمه محمد علي هيلك ويلقي كلمة يشرح فيها مطاليب العمال/ 100- سليم إسماعيل البصري/ الصراع) وبشهادة السارد المشارك في (حلم عين) أنه من خلال تفعيل السرد وتدويره فأن الحلم (يحيى ذاته بذاته)..

(*)

السارد الأول لإضراب عمال المسفن، ليس الصبي فهو يومها يمتلك حسا وليس وعيا بكل ما جرى، والأهم أنه يمتلك عينين تتذكران وهو يسرد الإضراب رواية ً (تدخل عيناي في الحلم عميقا.فجر الرواية وسيع جدا. وهي ليست هادئة...) وهذه ليست شهادة الصبي، بل الشيخ الذي كان صبيا .أما السارد الأول للحدث في سخونته الدامية فهو الأب النجار المشارك في الإضراب وهذا السارد تعرض كلامه لتدويرهو يشافه  امرأتين : الأم والزوجة : أعني جدة الصبي وأمه، وهذه الأم تعيديني إلى الأم، التي يخبرنا السارد عنها في أحدى قصصه القصيرة( كانت والدتي تقول. كان يا مكان... فتمسك بأذني يجمدني صوتها أسمع كلماتها تأتي من أماكن بعيدة ..)

(*)

 محاولة الشيخ / المؤلف  وهو ذلك الصبي، يحاول أن يستعيد ما جرى آنذاك قبيل نصف قرن لا تخلوهذه المحاولة من إلتباسات غبش الذاكرة، فهو يخبرنا إن الذاكرة والمخيلة (غير قادرتين على توكيد الاسترجاع أبوك روى لأمه كما روى لأمك كشاهد عيان عرف الساعة وتثبت مِن تاريخها)

(*)

ما بين زمن الحدث وزمن الكتابة أكثر من نصف قرن، فالطفل الذي كابد شطرا من تلك اللحظة العمالية صار رجلا في الستين، وثمة دافع دافىء لكل هذا التدوين:  هو بر الولد بأبيه العامل النجار(لاشيء يبقى للرجل الذي كان أبي لو أنني نسيت أحلامه) هذا الأب النجار كان حاضرا في (أمس كان غدا) الرواية العظيمة  كما وصفها شيخ النقاد العراقيين الدكتور علي جواد الطاهر – طيّب الله ثرا- في مقالة نشرها بعد مدة وجيزة من صدور الرواية.

(*)

البِر هو جزء ضروري من القوة الدافعة لهكذا سرد لايخلو من  سيرة ٍ روائية، أما الجزء الأكبر من القوة الدافعة فهو اعتزاز المؤلف بإنحداره الطبقي ووعيه السردي أن  لحظة الإضراب العمالي الأول تستحق عملا روائيا يليق بها ..عملا  يستحق تقنية روائية حداثية وبرأيي أن الأدب العراقي لأول مرة يحصّل على رواية عمالية ثمينة جدا ..بالطريقة هذه  يتواصل النص الروائي في ديمومته الحراكية الدؤوب والسبب هو: القوة الحلمية الوثّابة في المواطن البصري وفي البصرة ذاتها (حلم ما زال يتوالد في عيني الأب،لأن القهرمان مازالت حية،هي ذاتها التي رأها الصبي في قلب الأب. والأب مازال حيا في قلب القهرمان. هو ذاته الذي رأته العين،عين الصبي(أنا) التي كانت نورا ثلجيا ).

(*)

الأحمدي لم يخضع إبداعه لموضة تثبيت تاريخ الواقعة، كما شاع في بتوقيت كتابته لروايته(حلم عين) أو (قصر الألزلزماني) هو معين ُ بغوايات السرد، لا بوثائقية التاريخ ، تاركا لفطنة القارىء المعرفة الوقائعية للحدث، الذي اشتغلت الرواية بمشروطيتها الفنية

(*)

وهو يتناول الشخص القيادي المسؤول عن حماية التظاهرة، يخاطبنا المؤلف الأحمدي ضمن تعاليم (الرواية الواعية بذاتها)،  التي تقوم بتكليم القارىء عند الضرورة القصوى (خشيت أن يكون وجوده لأجل تأليف الرواية – ولكن الواقع والزمن والمعرفة، جميعها فرضت علي – أن أحكي ما جرى ) هنا يدس المؤلف لنا معلومة وثائقية ليخلّص روايته من مكياج المتخيل كوسيلة من وسائل الإقناع الروائي..وفي سياق نفسه، عن الحدث/ الإضراب نفسه،يؤكد لنا سليم إسماعيل في كتابه (الصراع )أن قيادة الإضراب كانت مؤلفة من  (حميد بخش وعلي الشعبان ومحسن ملا علي وثلاثتهم ليسوا عمالا في الميناء، يديرون الاضراب ويشكلون لجان تنظيمية /100- 101)

(*)

ثمَّ آصرة دفيئة بين المسؤول عن حماية التظاهرة وبين الصبي ابن النجار فالصبي حين ينادي ياعم، يخبرنا (شعرتُ بالألفة في لحظة النداء)

(*)

فرس النهر ذلك الحيوان المائي، كان متواجدا أحيانا في أصياف البصرة في مياه شط العرب، حين كان الشط شطا وليس مكب نفايات نووية لدول الجوار ولا حاويات مياه ثقيلة للمستشفيات والمعامل والبيوت .. ولفرس النهر صنّعت الذاكرة الشعبية اسم (عبد الشط) ربما بسبب لونه الداكن وهذا الحيوان المائي متهم بتغريق أولاد الفقراء السابحين في شط العرب، وبشهادة الصبي في الرواية (..عبد الشط ليس رجلا صالحا – أنه يأخذ منا صبيا أو صبيين في كل عام،ومع ذلك فنحن الصبية نتحداه،نتحداه ونسبح في مياه الرميلي )..هذا الكائن المخيف للطفولة اللائذة بمياه الشط للتخلص من قيظ البصرة سيجد بعيني ّ الصبي في الرواية قرينا له يتمثل بذلك الشرطى اللابد في أعلى الشجرة( الشرطي الذي نراه يكمن بين الأغصان ) والحضور المرهب للشرطي له مؤثرية سالبة سرديا على الصبي (كنت ُ أنا أخاف أن أروي ما أراه في الصورة – لكي لا أعطي أهمية أو معنى لوجود عبد الشط فوق الشجرة هذا ما تعلمته،أهمله فهو قذر ولكني لا استطيع أن أهمل صورة عبد الشط )..

(*)

في إضراب المسفن، سيكون والد الصبي السارد من الشهداء، وسيتخفف السارد من ثقل هذه اللحظة الموجعة بإجتراح النهاية المفتوحة للرواية ، مشيدا بها(بأولئك العمال الذين رافقوا أبي، عمال المسفن البحري وعمال السكك وعمال شركة النفط ..) وسيكون السارد واعظا من طراز آخر، يشحننا بالأمل وستكون نهاية الرواية بداية رواية جديدة وسيكون السارد ضوءاً ساطعا إلى الأبد .

*هذه المقالة هي مقدمة رواية (حلم عين) الصادرة عن دار المكتبة الأهلية في البصرة/ ط1/ بيروت/ 2019

 

 

عرض مقالات: