عندما كنت ألتقيه انبهر بهدوئه المميز وروحه العالية الطيبة وضحكته الحزينة ودماثة أخلاقه ونقاء قلبه الصافي، أنه أحد رموز القصة القصيرة في العراق وقد اسس مع نخبة من ألمع الكتاب الذين برزوا فترة الستينيات لأدب قصصي عالي الجودة في خارطة الأدب العربي، أنه القاص العراقي الراحل (محمود جنداري) المولود في مدينة الموصل قضاء الشرقاط عام 1944 ويعود نسبه الى عشيرة الجميلي العريقة داخل العراق. محمود جنداري أصدر اول مجموعة قصصية عام 1969 بعنوان (أعوام الظمأ) وفي تلك الفترة كان ثمة محمد خضير وجمعة اللامي واسماء أخرى من الكتاب الذين ينظر لهم بأعجاب شديد لما يكتبونه من قصة خرجت عن الواقعية الى ما هو شعري وفنتازي عبر لغة عالية ومكثفة تحافظ على روح النص الذي يبقى حيا ويتجدد بمرور الزمن. ولعل احداث الإنقلابات التآمرية على العراق منذ عام 1963 مرورا بعام 1968 ألقت بظلالها على كتاب القصة في العراق ليبحثوا عن أمكنة مختلفة كي تجسد معاناة الإنسان العراقي، وكان بروز كتاب مثل محمود جنداري الذي كان دائما يفضل العزلة في بيته ولا يحبذ القدوم الى العاصمة بغداد بعد ان أصدر مجاميع قصصية ورواية واحدة بعنوان (الحافات) التي كتبها في أواخر العقد الثمانيني. وفي بداية التسعينيات اعتقل القاص محمود جنداري مع الشهيد الروائي حسن مطلك وهو ابن مدينته الشرقاط واتهموا بمحاولة إنقلاب على رأس النظام العراقي في تلك الفترة فحكم على حسن مطلك بالإعدام ونفذ الحكم فيه! بينما محمود جنداري حكم عليه بالسجن المؤبد، وفي سجن ابي غريب قضى السنوات الأولى من الحكم ثم شمل بالعفو العام الذي صدر وقتها وخرج من سجنه وسافر الى الأردن محاولا تغيير الواقع المزري وحياته داخل السجن، واقع الموت الذي كان يأتي إليه في كل ساعة. وفي بغداد كانت لي لقاءات محدودة مع جنداري وبعد ان غادرت العراق التقيت بجندار في مقهى العاصمة مع الصديق فاضل جواد الذي قدم له كل ما باستطاعته من ضيافة وكرم، ونحن نجلس في المقهى قال جنداري لي انه يرغب في أن يرى مدينة عمّان ومعالمها فطلب ان اصطحبه بجولة نهارية طويلة ليرى العاصمة عمّان كيف تبدو بعيدا عن الحصار وكوارث الحروب التي كانت بغداد تئن منها . ونحن نصعد الى أعلى المدرج الروماني حدثني بحزن عميق عن سنوات العذاب التي قضاها داخل السجن وكيف كان يتعرض الى حملات تعذيب مستمرة، كان الحزن يقطر منه وهو يتذكر صديقه حسن مطلك، وحين ينظر الى الناس وهي تمشي في شوارع عمّان وقرب المدرج الروماني وفي الساحة الهاشمية كان يتألم على فقراء العراق ويتحسر على ثروات بلاده النفطية الكبرى التي بددت في حروب النظام العبثية، وهو يقارن ما بين الذين يساقون كل يوم الى حفلات الاعدام في السجون داخل العراق والناس في عمّان. وكانت ثمة مخطوطة يحملها معه قال انها مجموعة قصصية بعنوان (مصاطب الآلهة) اخذها الياس فركوح الروائي وصاحب دار ازمنة للنشر في الأردن، وبعد شهر او أكثر عاد محمود جندار الى العراق لانجاز بعض الأمور وعلى أمل العودة الى عمّان ثانية والاستقرار بها، لكن صدمنا بخبر موته في العراق بظروف غامضة كان ذلك عام 1995 ثم تبين انه قد دست له مادة الثاليوم قبل خروجه من السجن ليموت بطريقة مؤلمة، هكذا كان النظام الحاكم آنذاك يتخلص من معارضيه بطرق وحشية. وبعد رحيله بسنة تقريبا صدرت مجموعته مصاطب الآلهة عن دار أزمنة بعمّان وكانت واحدة من المجاميع القصصية المهمة والتي أبدع فيها وهو يمزج المآسي والآلام بغرائبية ويستحضر تاريخ العراق القديم ويصور لنا الأزمنة المتباعدة والأمكنة القريبة ليجعل من المأساة ثيمة من قصص مصاطب الآلهة التسع. القاص الراحل محمود جنداري الذي لم ينصفه الزمن ليرى مجموعته المخطوطة كيف اصبحت منشورة بكتاب ولها صوتها القوي في ساحة القص العربية وهذه المرة تتفوق ليست على الواقعية فقط بل تعدت الخيال الذي نحلم به الى الخيال التاريخي وهو يستحضر الملوك القدماء، سنحاريب ونبوخذ نصر وملوك كانوا هم أنفسهم عبارة عن آلهة. لقد قدم لنا محمود جنداري في مصاطب الآلهة أرثا تاريخيا من خلال التاريخ الأسطوري الذي قرأناه عبر تاريخنا القديم، لكنه تمكن من اسقاط الآلام الكثيرة التي لحقت بالعراق عبر حكم استبداي قمعي تعسفي وهو الشاهد القريب على ذلك التعسف والظلم المخيف الذي نال منه في فترة السجن وحتى رحيله، وكانت مهارته القصصية واضحة في اغلب قصص المجموعة وهو يتحدث على لسان ضمير الغائب وينتقل بنا من سامراء الى بابل الى اوروك . ان مصاطب الآلهة قد علمتنا درسا في التاريخ القديم والجديد ودروسا وعبر في الألم والحب والخوف والشجاعة.

عرض مقالات: