قرأت أمس رواية ممتعة لكاتبة عُمانية لم اقرأ لها من قبل: جوخة الحارثي. عرّفتني بها جائزة مان بوكر وبروايتها سيدات القمر - تُرجمت أجساد أثيرية- بعد أن فازت بها لهذا العام. استمتعت بها فعلا لولا دودة الاستشراق التي كانت تحفر في رأسي مع كل مشهد وحدث وصورة. كنت قد قرأت كتابا متميزا آخر مرشحا للجائزة نفسها ولكنه لم يفز وهو نكات للمسلحين للكاتب اللبناني من أصل فلسطيني مازن معروف، الامر الذي يثير الفضول.
يقول ادوارد سعيد في الاستشراق أن الثقافة الاستعمارية المهيمنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لاسيما البريطانية والفرنسية صنعت من الشرق شرقا متخلفا، عالما آخر غارقا في ظلام الخرافات والبؤس، ليبرز ازاءه التفوق الحضاري للغرب ويبرر غزوه واحتلاله ونهب ثرواته. الاستشراق منظومة فكرية كاملة ومعقدة، ولكننا يمكن ان نختصرها بأنها خطاب يقدم صورة نمطية للشرق، يستبعد كل ما من شأنه منحه قيمة حضارية ويركز بالمقابل على كل ما شأنه الحط من قدره، من أجل تسويق رسالة حضارية للاستعمار، وهي انقاذ شعوب الشرق من التخلف. من أبرز مقومات هذه الصورة: الغرائبية واللاعقلانية و الظلم الاجتماعي والخمول والحسيّة والشيزوفرينيا الثقافية .. الخ.
ومع ذلك يبقى للشرق-عند الغربيين- سحرغامض يثيرهم ويجذبهم اليه ويغريهم بسبر اغواره وهتك اسراره، باختصار عالم من الف ليلة وليلة. موضوع للفرجة المثيرة المدهشة بكل تناقضاته واجوائه الساحرة. وتحتل المرأة مكانة مبرزة في الخطاب الاستشراقي فهي اما اميرة حبيسة ضمن الحريم او جارية وامة وفي الحالتين اداة للمتعة مجردة من حقوقها الانسانية (ما تجسده لوحات ديلاكروا مثلا). ولقد شهد هذا الخطاب ولادة ثانية خلال الحرب على الارهاب وبات يطلق عليه الاستشراق الجديد الذي يوظف الخطاب القديم بصيغ تلائم القرن الحالي. فلننظر ماعلاقة سيدات القمر للكاتبة جوخة وهي استاذة الادب العربي في جامعة مسقط وتحمل دكتوراه من جامعة ادنبره، بكل هذا.
تعرض الرواية صورا من تحولات سلطنة عُمان عبر نصف قرن أو يزيد، منذ تغير الحكم -كما تقول- اي انقلاب السلطان قابوس على ابيه والغاء الرقّ في عام ١٩٧٠. تتوزع صفحاتها على ثلاثة اجيال من السادة والعبيد، لا سيما النساء. وتسهب الكاتبة في وصف تفاصيل الحياة الاجتماعية المثيرة : طقوس الزفاف والولادة والنفاس والقبالة والموت والجنازة ... دخان البخور والقرنفل والهيل والزعفران والقهوة، والطهو على الحطب وغرف النساء المعتمة المفروشة بالطنافس الحريرية والاثاث المذهب ، المنزوية في آخر الدهاليز، سحر وشعوذة وغرائب، حتى جهاز العروس وانواع اطباق الطعام ...أجواء استشراقية بامتياز. تخضع النساء فيه للاعراف الاجتماعية خضوعا تاما عدا امرأة واحدة، تحقق بمعجزة استقلالها الكامل وتعاشر من يعشقه قلبها بلا زواج ... وتختفي - كما تظهر- في ظروف غامضة
(باغته ظل بشري بين الكثبان، بسمل وتراجع خطوتين للوراء لكن الظل تقدم نحوه بثقة. صاح: من هناك؟ ففاجأه صوت انثوي أنا. كانت امرأة فارعة الطول قد كشفت برقعها ... نظرت مباشرة في عينيه... اربكه جمالها المصمّم وبريق عينيها الواسعتين، اربكته رائحتها الفاعمة وقربها المبرّح، لكن كلامها افقده السيطرة:"أنا نجيّة واُلقب بالقمر واريدك أنت"... لاحت له تحت ضوء القمر كأنها من الحور العين التي بشر الله بها المؤمنين). ص٣٩.
الزمن الواقعي للرواية هو ساعات رحلة طيران الى فرانكفورت ، أما زمنها الحقيقي فعقود طويلة تلتقط الكاتبة منها تفاصيل لا يربطها سوى المكان وتيار وعي عبدالله ، المسافر على متن الطائرة، وهو الخيط الذي ينتظم الحبكة. بمعنى آخر لايوجد حدث ينمو داخل الرواية ولا شخصية تتبلور، ولا صراع يحتدم ، كأننا أمام شريط وثائقي يقدم وصفا لاحداث متباينة وكاشفة لثقافة مجتمع قروي على اعتاب الصحراء، ومن ثم المجتمع نفسه وهو ينعم بالكهرباء والتلفزيون والهواتف المحمولة، بعد انتاج النفط. من الخيمة وبيت الطين الى بيوت الاسمنت ذات الطوابق حيث حولوا (الدش) الى صحن كبير للغنم!
يتناوب السرد بين صيغة المتكلم عندما يكون عبد الله هو الراوي، وصيغة الغائب العليم عندما يتحدث الاخرون. النساء يتكلمن كثيرا وفي كل شيء، عدا ما يحدث في داخلهن. (الحياة شطران مانعيشه ومايعيش بداخلنا) تقول ميا، ولكنها صامتة وتنام طويلا (فالنوم هو جنتها الوحيدة وسلاحها الاخير ضد قلق وجودها البالغ) ص٥٣.
تعجّ الرواية القصيرة نسبيا بأجيال من الشخصيات نساء ورجالا، حتى تضيع على القارئ اسماؤهم وعلاقاتهم. وتعطي قضية العبيد وتحريرهم مساحة واسعة في السرد. العبدة عنكبوتة يحبسها سيدها في القلعة ويربطها زوجها العبد ويغتصبها يوميا، والعبدة مسعودة جُنّت وحبستها ابنتها في زاوية من الدار، وظريفة التي يتناوب عليها الرجال، والخادمة الهندية التي تعاد الى بلدها بعد أن أنكشف حملها ... الخ. ولكن النساء الحرّات وبنات الشيوخ لسن اوفر حظا. المعلمات يتعرضن الى اغتصاب جماعي ولا يتم التحقيق في القضية، كل النساء اللواتي احببن بصمت تزوجن زواجا تقليديا بقرار من العائلة، الشابات يربطن صدورهن حتى تكاد اضلاعهن تتكسر حتى لا تبين اثداؤهن، يخفين ادوات الزينة ويُمنعن من الحديث مع المتزوجات او يقرأن غير الكتب التراثية المنزوعة صفحاتها المحرجة، ولا ينبغي ان يسمع صوت المرأة حتى عند الولادة، ام عبد الله قتلت مسمومة دون وجه حق وسواها الكثير من التفاصيل الحزينة.
الاطفال أيضا يتعرضون الى ظلم أبشع احيانا بسبب الشعوذة وقسوة الآباء. الغريب أن الجميع -عدا قليل- لا يشعرون بكل هذا الظلم ويتقبلونه على انه جزء طبيعي من الحياة، بل انه هو الحياة نفسها. هذه الصور وسواها تؤكد الصورة النمطية التي كرّسها الاستعمار عن الشرق. وهي واقعية بلا شك ولكن طرحها كمشهد مثير للفرجة والاستمتاع يجعلها شهادة محلية تخدم الخطاب الاستعماري. صحيح أن الكاتبة قدمت نماذج اخرى لموازنة الصورة، مثل الطبيبة وخولة واسماء، الا أنها كانت جزءا من المشهد.
لقد وظّف خطاب الحرب على الارهاب قضية المرأة في الشرق توظيفا بشعا، وحمل زيفا لواء تحريرها من المتطرفين. وهذا هو فقط سرّ السوق الرائجة و طوفان الاعمال الهابطة فنيا والناجحة في الدعاية السياسية ضد ثقافة الشعوب المبتلاة بالارهاب، ولا أقول أن رواية خوجة من بينها، اطلاقا. فأنا لا ألمح هنا الى أن الكاتبة تساهم في هذا المشهد الادبي الدعائي الفاقع، ولا أقول أنها فازت بالجائزة لهذا السبب أو أن روايتها تخلو من شروط الجمال، ولكنني اخشى أن لجنة مان بوكر وظّفت روايتها ضمن اطار الاستشراق الجديد.

عرض مقالات: