كم هائل من الروايات العراقية صدر وما زال يتواصل.. وحركة النشر في تسارع مستمر عن العطاء الروائي حتى أصبح فن كتابة الرواية ظاهرة في الحياة الثقافية العراقية بعد 2003. وبهدف الوقوف عند هذه الظاهرة ومعرفة ابعادها واهميتها وجدواها؛ توجه الزميل علاء الماجد الى عدد من الروائيين والنقاد لاستطلاع آرائهم التي نشرناها في حلقات، آخرها التالية:

  • الناقدة د. نادية هناوي

أرست الرواية العراقية في مرحلة ما بعد التغيير تقاليدها الفنية والموضوعية التي أثبتت فيها قدرتها على المواصلة وامكانياتها في العطاء، لتكون ذات هوية سردية عربية خاصة.

ومن بين التقاليد الموضوعية التي أرستها هذه الرواية أنها استطاعت أن تلج برتوكولات رواية ما بعد الحداثة، ومنها برتوكول المراهنة على التاريخ المدوّن، بقصدية عدم التسليم له، رغبة في إعادة تمثيل المرجعيات والوقائع والأزمان والذاكرة والجنس والجسد، لتكون الرواية بذلك مؤدية دورها كمضادة أو بديلة للتاريخ الرسمي. وكان لرواية (حكايات دومة الجندل) 2004 للروائي جهاد مجيد الريادة في هذا الاشتغال، معتمدة التجريب السردي المفتت لقدسية التاريخ الذي لم يعد أمامها سردية كبرى، بل هو سردية مشكوك في أمرها، مرتاب في موثوقيتها. ولقد تعزز هذا البروتوكول عند جهاد مجيد بعد عقد من الزمن بمعمار سردي جديد اتخذته روايته (أزمنة الدم) 2016 التي استثمرت التاريخ الرافديني القديم، صانعة تاريخًا جديدًا بأحداثه وشخصياته التي هي من صنع المخيلة الروائية، لتكون رواية التاريخ التي تتمثل كيفيات التباس الأزمنة وتقاطعها، وقد اصطف الماضي مع الحاضر وتداخل الواقعي بالإيهامي والوثائقي بالتخييلي.

ومن التقاليد التي أرستها رواية ما بعد التغيير أيضا أنها جسدت جمالية اختراق السارد حدود الواقع والمتخيل، اظهارا لبشاعة الحرب والاحتلال وما يستجلبانه من كوارث تروّع البشر وترعبهم بقبح الارهاب وظلاميته، وتأتي رواية (محنة فينوس) 2010 للروائي أحمد خلف في المقدمة، نظراً لما انتهجه ساردها من كتابة انفتاحية تجمع السيرة بالأسطرة وتواشج اللغة بالأسطورة.

ولقد حضرت موضوعة الخطف والاغتيال بشكل واضح عند هذا الكاتب في روايته (تسارع الخطى) 2014 التي جمعت الواقعي الحياتي بالوهمي، مداخلة بين بناء الرواية وبناء المسرحية كتجريب فني سعى من خلاله ساردها الى انتاج قصة ممسرحة، يتأرجح بناؤها اجناسيا بين المعمارين السردي والمسرحي.

أمّا موضوعة الاثنيات العرقية وتوظيف الأبعاد الميثولوجية في التعبير عنها؛ فقد حازت على اهتمام روائيي هذه المرحلة، كما في رواية الراحل سعدي المالح (في انتظار فرج الله القهار) 2006 التي جسدت عمق التصارع القيمي المترسخ في المتخيل الاجتماعي في العراق.

ومن التقاليد التي أرستها رواية ما بعد التغيير توظيفها للاشتغال الميتاسردي، منتجة حبكات درامية ذات نزعات ساخرة وربما عنيفة، وقد هيمنت عليها التشيئية والتغريب والفانتازيا والمفارقة وهنا نذكر رواية (مقتل بائع الكتب) 2016 للروائي الراحل سعد محمد رحيم التي اعتمدت الكتابة النرجسية الميتاسردية التي هي بمثابة مشروع تخصيب وتناسل، به تتولد من داخل الرواية رواية أخرى.

واتخذت الكتابة الروائية النسوية حيزًا مهمًا في رواية ما بعد التغيير العراقية، مرسّخة تقاليدها الاجناسية والجمالية. ومنها اتجاهها القصدي نحو تفكيك المتمركزات الاجتماعية تغليبًا للبنى المهمشة، ومنها المرأة التي غدت مالكة لكينونتها، معلنة عن نفسها مركزيًا، فارضة على الاخر أن يكون كيانا تابعا لها، لا يملك قرارا ولا استقلالا، متماشية بذلك مع توجهات الكتابة ما بعد الكولونيالية, كما في رواية (سيدات زحل)  2013 للروائية لطفية الدليمي التي اتخذت من الصوت الأنثوي فاعلًا مركزيًا في التحبيك والوصف، معطية له الأولوية في المبادرة والتصعيد، مشتغلة على ثنائية المركز/ الهامش وبوجهة نظر نسوية للعالم.

ونحتْ رواية (الحفيدة الأمريكية) 2009 للروائية انعام كجه جي منحى نسويًا، فيه تماهت الذات المؤنثة مع هويتها، فوجدت نفسها تعاني الشرخ  والتشظي الذي جعلها تتحدى ذاتها متعقلنة في فلسفة الأمور وتشخيصها وتعليل مساراتها واتجاهاتها، بارعة في تساؤلاتها التشكيكية وجريئة في مطارحاتها الباطنية وتداعياتها النفسية الداخلية.

وتندرج رواية (الاجنبية) 2013 للروائية عالية ممدوح في خانة السيرة الذاتية النسوية التي فيها المؤلفة هي الساردة التي تستذكر طفولتها واغترابها معلنة عن خصوصياتها، معترفة بتشظيها في الانتماء للبلد الأم واحساسًا بالهوية الوطنية. بينما جربتْ رواية (أحببت حمارا )2015 للروائية رغد السهيل التلاعب ببنية المسرود له، بمنهج واقعي ذي مسرب سحري، لا يخلو من أمومية سردية تتحرى الارصادية بقصتين اطارية وضمنية، مع مقصدية توظيف المفارقة الساخرة، من خلال صنع عوالم فنتازية، لا تشاكس الرجولة وتنتقصها حسب؛ بل تتهكم من الانوثة نفسها، حين تكون قابعة في الظل، راضية بالخنوع، وقانعة بالقهر وراضخة للاسكات والحجر.

ونخلص مما تقدم إلى أنّ هذه الروايات العشرة (حكايات دومة الجندل، أزمنة الدم، محنة فينوس، تسارع الخطى، في انتظار فرج الله القهار، مقتل بائع الكتب، سيدات زحل، الاجنبية، الحفيدة الامريكية، أحببت حمارا) في مقدمة العطاء الروائي العراقي فيما بعد التغيير.

وبالرغم من كلِّ هذه التقاليد السردية التي وصلت إليها الرواية العراقية في مرحلتها الراهنة على المستويين الشكلي والمضموني؛ فإن الطموح يظلُّ مُشَرعًا أمام الساردين لمزيد من التجريب والمغامرة ما بعد العولمية، ليدخلوا إلى مناطق جديدة من الكتابة السردية، كمنطقة الخيال العلمي ومنطقة الانتاج السيري بأنواعه الترجمي والذاتي والغيري والمذكراتي والنسوي، مع الحفر في التاريخ الرسمي بحثًا عن مغيبات فضلا عن استعادةً الميثولوجيات الاسطورية والخرافية بغية اعادة انتاجها. كل ذلك وغيره سيضخُّ دمًا جديدًا لسَّردية روائية عراقية، مفتولة العضلات، تبزُّ الغرماءَ دومًا.

عرض مقالات: