(تحليل الصورة)

في تحليلنا لنص المصور لطيف العاني الفوتوغرافي ؛ نعتمد مجموعة محاور تُسهّل لنا عملية التدقيق في التفاصيل والتخصصات التي تعكسها الصورة. وهي محاور مستنبتة من ارشيفه الخاص، وغير مفروضة على عالمه الفني. حَرَصْنا على أن تكون قريبة من اشتغاله أولاً، وان تمتلك حيثيات التعبير عن رؤاه إزاء الواقع بما فيه من ظواهر جمالية ثانياً، الأمر الذي ألزمنا حالة من الوقوف على خصائص كل محوّر ، بما يُعطيه نظرة شاملة ، بعد ذلك نحاول التخصيص على ما أتت عليه الصورة.

 التصوير من الجوّ

يُعد الفن بطبيعة الحال من ابتكار العقل، فتجدده يعني تجدد مستويات البنى الفكرية الممتزجة بالذائقة الجمالية. لذلك يتوجب النظر إلى المنجز الفني  مصاحباً للمستوى المعرفي العام والخاص. وهذا يسحبنا إلى النظر إلى المنتج نفسه ، لأنه حمّال اوجه.

صحيح أن الفطرة عملت على إظهار ملَكة الإنسان ومكوّناته التعبيرية الدالّة على مستوى رؤاه للعالم من حوله ، غير أن الفطرة تعني سمة الموّهبة الذاتية. وما نريد تأكيده هو أن المعرفة بكل مستوياتها تقود إلى الابتكار ، ثم إلى تنوّع الاختيارات ، بعد ذلك تؤدي بالفنان إلى تقصّي الوسائل الممكنة لتحقيق تشوفات الذات المبدعة. وهذا ما نجده عند الفنان ( لطيف العاني) من خلال اختياره أسلوب التصوير من الجوّ. هذا الأسلوب الذي له كثير من الميّزات.لعل أهمها بنية ما هو شمولية النظرة إلى المكان واحتواء أجزائه  من جهة ، والتدقيق في هذه الأجزاء على حساب تشكيل الكُل من جهة أخرى. فهي بذلك سمة جمالية بنيوية ، تتعلق ببنية المكان ، وبالبنية الجمالية لإنتاج الصورة. إذ نرى أن مثل هذا الاختيار حصل نتيجة فعالية العقل الفني ، ودرجة سعيه الذاتي لإضفاء شيء من الجمالية الفنية مضافة إلى جمالية المكان حصراً.

لقد عمل الفنان ( العاني) من خلال الصورة على تقصّي أسس الأمكنة عبر تعدد أشكالها ووظائفها وسماتها الاجتماعية والعمرانية. فهو لم يعتمد العفوية في التقاط مثل هذه المشاهِد ، بقدر ما عمل على شحذ مخيّلته في صياغة صورة فنية . لذا نجده موّفقاً في لملمة كادر الصورة  وحرصه على توزيع الضوء والظِل ،بالرغم من صعوبة التصوير بوسيلة مثل هذه.

إذ يبدو أنه إضافة لجمالية القصد في التصوير ، أخذ بنظر الاعتبار هذه الصعوبة ،متخذاً ما يلزم لتلافي التشويه الذي ربما سيحصل أثناء التصوير ، مؤثراً على انتاجها . بمعنى أن دراسة الامكانيات ، وتهيئة اللوازم خاصة الذاتية منها والتي تتعلق بإبداع اللقطة ، كانت من المهيمنات اللازمة  للإنتاج. لذا نرى أن جميع اللقطات المتوّفرة لدينا ، تتحلى بتقنية عالية ، هي تقنية الكاميرة ، وحذاقة عين المصوّر ، ذلك لأن سمة هذا الاتحاد بين عين لإنسان وعين الكاميرا تنتظرهما  عيّن ثالثة ، هي عين الرائي البصري (  يُنظر في هذا كتابنا "العصا والضوء" ). ومن أجل أن تتوّضح مثل هذه الرؤى السابقة لرؤية فوتــــوغراف ( العاني) بهذا الخصوص يتوّجب فحص عيّنات منها:

لقطة لساحة التحرير في الباب الشرقي من مدينة بغداد ، نرى أن هذه اللقطة مدروسة بشكل كبير. والدراسة متأتية من عطاء الصورة التي كانت شاملة وذات سعة. فالساحة اتضحت معالمها مع ما جاورها في القريب والبعيد ، أي أنه وسّع من مساحتها التي هي مساحة فنية أصلاً ، لأنها ارتبطت بأثر فني هو نصب الحرية ، ذي الاهمية في تاريخ الفن العراقي المعاصر من جهة ، ولأن الساحة من الناحية السياسية المدنية ، شاهد وطني ، حققت من خلالها فئات الشعب فعاليات جماهيرية مهمة في تاريخ العراق وما زالت. فهي رمز تريخي بالنسبة لبغداد والعراق. لذا كانت سعتها وتوّزع أجزائها المنفتحة على الشوارع الأخرى وجانبي الجسر في الصورة من بنات علاقة الفن بالواقع.

فالصورة تؤرخ لحالة ما قبل استحداث متغيرات عليها. إذ برزت سعتها محاطة بمقتربات تحت النُصب ، وأخرى على الجوانب الأخرى بحيث برزت سعتها أكثر، مما جعل وجود نصب الحرية متمتعاً بحرية بصرية كبيرة، تُتيح للسائر التأمل في تفاصيلها وتفاصيل الجدارية. كذلك استطاع أن يُظهر محتوى حديقة الأمة من أحلى صورة من كثافة خضرة الأشجار وجمالية العمارة على جوانبها. الأمر الذي أظهر تجاوباً من خلال لغة تصوير ذات انتباه في حوّار تاريخي بين كل هذه المكوّنات  للساحة.

إن استحداث لغة جمالية ، ذات أبجدية فصيحة كفيل بأن يجعل هذه اللقطة ناطقة بحقيقة تاريخية تضمنتها الصورة ، لأنها أرّخت لمجال مهم من أمكنة بغداد اجتماعياً وسياسياً وذوقًاً.

في نموذج لصورة احتوت على مجموعة بنى معمارية ( منطقة البنوك)، ركزت اللقطة على مجموعة شواهد  حيث ابتدأت بعمارة البنك المركزي وما يجاورها من الأبنية ومجمعات السكن،  والفاصل بين قسميّ بغداد الكرخ والرصافة هو نهر  دجلة. وفي هذ التقسيم الطبيعي الذي أحيل إلى تقسيم فني ــ جمالي. هذه التشكيلة الفنية توحي بتطامن ودعة ، أي  ظهرت للمياه والأنهار تأثيرات أسطورية على الأمكنة. فالنهر مكان متحرك ، يُضفي على الأمكنة التي يمر بها جمالية ودلالة ،فمياهه تعني أهم ما تعنيه الحركة والحيوية. والصورة إنما أوحت بالحركة المصرفية والتجارية التي شهدت لها أمكنة بغداد العمرانية كالأسوق مثلاً.

إن عين الكاميرا التي استعانت بعين المصوّر ، تعاملت مع المشهد من باب جماليته ،وذلك بتعميق الضوّء في جوانب  وترك الظِل ينتشر بحيوية وتعبير متميّزين ، لا سيّما الجانب الآخر من النهر. فالظِل لم يخف معالم عمارات البيوت والمنشئات ، بقدر ما أضفى عليها نوعاً من تسلسل الظِل وفق القرب من النهر ، و الابتعاد عنه. إن الجمالية التي عليها اللقطة ، تركت في قوة الاختيار وشفافيته أثراً على الصورة ، مما حمّل كادرها دلالات جمالية، خاصة ما ظهرت عليه مجمعات البنوك ، لاتصالها بشكل مباشر بالبنية الاقتصادية للبلد.

وبمثل هذه المهارة الفنية كانت صورة مبنى (مصرف الرفدين قيد الانشاء) فقد توّزع الضوء والظِل بشكل مدروس ، دال ومؤشر على الجوانب المهمة وذات التأثير سواء في فن العمارة ، و مقترباتها، أو شارع الرشيد ونهر دجلة.

إن الفنان بمثل هذه اللقطات يحرص على أن يحتوي كادر الصورة على مجموعة بنى مؤثرة. ففي الصورة برز جامع الخلفاء كمعلم واضح جوّار مجموعة عمارات مصرفية.

ولا يبتعد في التقاط صورة الأمكنة عن تجمعات الناس من الجوّ ، ففي صورة بعنوان (ساحة الميدان 1961) حاول أن يُقدم كادراً برّز معالمها بشكل عام ، ثم أعاد اللقطة بأخرى أظهرت ازدحام الشارع واكتظاظه بمشهد تشييع. وبهذا حقق صورة فيها حيوية إنسانية ، مهتماً كعادته في إبراز بلاغة الأسوّد والأبيّض.

إن السؤال الذي يبرز ونحن نقلّب صوّر الفنان هو : كيف لعينه الفنية أن تحتوي الأجزاء والكليات بهذا القدر من الاحتواء ؟ فصورة ( بناية المجلس الوطني 1961) استطاعت أن تجمع كل ما جاور البناية ( نهر دجلة ، وزارة التخطيط ، جسر الجمهورية ) عبوراً إلى الجانب الآخر من بغداد ، حيث برزت المعالم واضحة.

هذا الجمع كان فنياً يجتمع على انتقاء واصطفاف أنيق ، دال على أناقة المدينة في تلك الحقبة الزمنية. وهذا أيضاً يُحيلنا إلى أن الفنان يؤرخ لمعالم بغداد ، فهو يُثبت تاريخً محصوراً في مبتدأ ستينيات القرن الماضي ، وفيه وجه مقارنة على طول الزمن المتقدم على مثل هذه الأمكنة. إن وجود التاريخ ساري المفعول في تحقيق المقارنة سلباً أو إيجاباً. فهو ــ التاريخ ــ مؤشر نقدي لجمالية المكان. ولعل الأناقة كانت أكثر وضوحاً في لقطة ( مدينة اليرموك 1961) حيث اصطفاف البيوت على نسق واحد ، والأروقة والأسيّجة التي احتواها الظِل بحيويته، بينما سطوح البيوت كشفها الضوّء بشكل باهر. هذه الجمالية أتت من رهافة اختيار اللقطة زماناً ومكاناً.

وما يؤكد لنا قدرة الفنان على ضبط لقطاته من الجوّ، شدّة اهتمامه بالبنية الفنية ــ الجمالية للقطة، وحرصه على أن يمثل دوّر المؤرخ بالصورة ، أو بالرسم الضوّئي للأمكنة والمعالم الحضارية والمعمارية. أعتقد أنه استطاع تقديم عيّنات كثيرة أكدت حرصه على أن تكون الريادة لكاميرته بهذا الضرب من التصوير الفوتوغرافي.

عرض مقالات: