ثمة حقيقة تاريخية ذات خصوصية ثقافية معلنة مفادها ان حركة الشعر الحر في العراق هي اول من مهدت للحداثة الشعرية العربية الراهنة، من خلال روادها او مؤسسيها الاوائل: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، في اواخر العقد الاربعيني من القرن العشرين.
ويبدو ان هذه الحركة بعد ما يقرب من ثمانية عقود خلت ما زالت في حاجة الى التعريف والتذكير وتوضيح ابرز المعالم في رحلة نشوئها وتطورها وصلتها بالتراث الشعري العربي، خصوصا وان جمهرة واسعة من القراء والنقاد ما زالت توجه للشعر الحر سهام النقد، لكنه نقد يغض الطرف عن ايجابيات الشعر الحر ولا يرى فيه الا سلبياته، وهل خلا الشعر العربي التقليدي من السلبيات؟
حقاً؟ ان حركة الحداثة الشعرية العربية الراهنة ما زالت في طور الاولمبياد الطويل، واكثر منها شعراء الحداثة انفسهم، وهم يكابدون ويراهنون على مشروعات فردية وجماعية ضمن دروب شائكة ومنعطفات وعرة، منذ قصيدة التفعيلة او الشعر الحر وحتى الراهن المجلى بقصيدة النثر، من دون الخلاص نحو رؤيا شعرية تكاملية وصولا الى الجوهر المتفرد في كشف المختلف والهامشي والمهمل في التجربة الانسانية بتجسيداتها الذاتية والموضوعية معاً.

معركة ساخرة

ان ادبيات الشعر الحر او ما كتب عنه تحديداً في تأسيسه العراقي الاول كثيرة كثرة الشعر نفسه، وهي تؤرخ لحركته الاولى او تنظر لها او تكشف جمالياتها او تقومها في صلتها بالشعر التقليدي، باعتبارها امتداداً متطوراً له، او تقارنها بحركات مماثلة في الآداب العالمية، وعلى الرغم من كثرة تلك الادبيات فان واقع الحال يتمثل بهذه الحكاية الموجزة التي نشبت عام 1954 في صفحات مجلتي "الآداب" و "الاديب" اللبنانيتين والبعض من الصحف والمجلات العراقية حول من كتب قبل الآخر قصيدة الشعر الحر: نازك الملائكة ام بدر شاكر السياب؟ فهذا يقول: الملائكة هي التي سبقت السياب بقصيدتها "الكوليرا" في 27/ 10/ 1947. وذلك يقول: السياب هو الذي سبق نازك بقصيدته "هل كان حباً" في نفس العام. وثمة من نفى ان تكون قصيدة نازك هذه من الشعر الحر واسبغ هذه الصفة على قصيدة السياب وثمة من اعترض وهاج وماج على ذلك وقال عكسه.
وبعيدا عن صراع الملائكة والسياب حول اسبقية التأسيس والريادة في حركة الشعر الحر في العراق، بعيدا عن ديوان الملائكة الاول "عاشقة الليل" وديوان السياب الاول "ازهار ذابلة" الصادرين معاً في العام 1947 فقد وجدنا ان بلند الحيدري نأى عن الجدل في حينه، واكتفى بالصمت، في حين كتب الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي لا نصيب له في هذه المنافسة مقالة تهكمية تحت عنوان "من علق الجرس" ومن المؤكد انه كان يقصد السياب بهذه السخرية المريرة.

مرجعيات أولى

ثمة من يرى في بواكير حركة الشعر في العراق بانها لم تكن اولى المحاولات للتطوير والتجديد في الشعر العربي الحديث، بل سبقتها محاولات اخرى اهمها استخدام (الشعر المرسل) الذي يتخلى عن القافية ضمن محاولات احمد فارس الشدياق في كتابه "الساق على الساق" 1855، ونظم في هذا الشعر ايضاً جميل صدقي الزهاوي 1905 وجربه كذلك عبد الرحمن شكري في ديوانه "ضوء الفجر" ضمن مدرسة "الديوان" المصرية التي تجمع شكري بالعقاد والمازني. اما الشاعر علي احمد باكثير فقد اعتبر الشعر المرسل الوسط الملائم للمسرحية الشعرية، فنظم مسرحية "اخناتون ونفرتيتي" 1943 وترجم مسرحية شكسبير "روميو وجوليت" 1946 مستخدما هذا النوع من الشعر.
لقد ظلت تلك المحاولات جزئية غير فاعلة ولم تتطور الى حركة ناضجة حتى في محاولات احمد زكي ابو شادي الشاعر المنشئ لمدرسة "ابولو" في مصر، حينما حافظ في شعره المرسل على الوزن وتخلى عن القافية، لكنه استخدم أبحراً مختلفة في القصيدة الواحدة، وكان انتقاله من بحر لآخر على غير نظام معين، وظهرت اول قصيدة له بعنوان "الفنان" في ديوانه "المشفق الباكي" 1926 ولقد اخفقت هذه القصيدة وقصائده الاخرى من الشعر الحر، لانها تفتقر الى الموسيقى الداخلية، على الرغم من وجود الوزن فيها، كما جاء الانتقال الاعتباطي السريع من بحر الى الآخر صادماً الى الاذن العربية، لذلك لم يجد هذا الشعر قبولا، وظل هو الآخر محاولة جانبية لم تنته الى حركة منظمة ناضجة.
وباستثناء شاعر المهجر اللبناني الياس ابو شبكة، خصوصا في ديوانه الشهير "افاعي الفردوس" وتأثيره الواضح على شعراء ما بعد الرواد امثال سعدي يوسف ورشدي العامل ومحمد سعيد الصكار، فان مدرسة المهجر اللبنانية بطابعها الرومانسي الوجداني ظلت اسيرة للبيت الشعري الكلاسيكي ونظام القافية وبحور الخليل بن احمد الفراهيدي.
ويمكن القول ان هذه المحاولات كانت خطوة نحو التحديث خطاها الشعراء العرب نتيجة الاحتكاك بالغرب والاطلاع على شيء من ادبه والتأثر به. ويظهر ان هذه المحاولات قد اثارت اهتماماً كبيراً لدى الشعراء العراقيين، لا سيما الشعراء الشباب الذين ظهروا في اواخر اربعينيات القرن العشرين، فهم لم يجدوا في الشعر الحر ضربا من ضروب التحديث فحسب، بل عدوه تحدياً وامتحاناً لطاقاتهم الشعرية، فضلا عن تخصص السياب والملائكة والبياتي باللغة الانكليزية اثناء دراستهم في دار المعملين العالية وقتذاك، وهذا ما اتاح لهم فرصة الاطلاع على منجزات الشعر العالمي من خلال الكتب والدوريات الانكليزية التي كانت توفرها مكتبة "مكينزي" الشهيرة في بغداد، فتأثر السياب بالشاعرين الانكليزي ت. س. اليوت، وأديث سيتويل، بينما انغمر البياتي في الاعجاب بالشاعر التركي المعروف ناظم حكمت قبل ان يلتقي به في موسكو اواسط الخمسينيات، في الوقت الذي افتتنت فيه الملائكة بالشاعر والقاص الامريكي ادغار الن بو فضلا عن شعراء اليونان المعاصرين، لانها كانت تجيد اللغة اللاتينية ايضاً بشكلها الهيليني الجديد.
والخلاصة من كل هذه المرجعيات، هي ان رواد حركة الشعر في العراق قد استفادوا من نواقص الشعر الحر الذي سبقهم في مصر ولبنان، فخرجت حركتهم على ان يكون التطور تدريجياً، تمليه ضرورات التجارب الشعرية الجديدة في العالم، لا الرغبة في الخروج عن القديم فقط، لذلك حافظت هذه الحركة على الاوزان الشعرية والتزمت في بدايتها بحراً في القصيدة، ولم تتخل عن القافية بل لجأت الى تنويعها، ثم استخدم روادها التفعيلة بحرية وجعلوا البيت الشعري شطراً واحداً، لئلا ينقطع المعنى بالوقفة بين الشطرين، واستخدموا من التفعيلات ما يقتضيه التعبير عن المبنى والمعنى معاً.
وأهم من ذلك كله انهم جعلوا البيت متصلاً، فقضوا على استقلال البيت الذي قامت عليه القصيدة العربية، ومنحوا القصيدة من الشعر الحر وحدة عضوية مكنتهم من متابعة دفق التجربة الشعرية، كذلك جعلوا القصيدة الجديدة معبرة عن هموم وتطلعات ذاتية وجماعية معاصرة، عبر تجربة فعلية لا تقليداً لنماذج جاهزة.

ثلاثة اتجاهات

نخلص مما تقدم ان حركة الشعر في العراق قد ادت مهماتها التأسيسية والريادية لا في العراق حسب، بل امتدت تجلياتها وظلالها في عموم الوطن العربي كمصر ولبنان وسوريا وفلسطين والسودان والبعض من دول الشمال الافريقي. ولهذا يمكن الاشارة الى ثلاثة اتجاهات واضحة وملموسة في تاريخ الحداثة الشعرية العربية، كما جاء في تصنيف الباحثة العراقية الدكتورة حياة جاسم محمد، وهي: الاتجاه المحافظ، الاتجاه المعتدل، الاتجاه المتطرف.
اول هذا التصنيف، يتمثل بموقف الشاعرة نازك الملائكة ذات الاتجاه المحافظ في شعرها وتنظيرها للشعر الحر في كتابها " قضايا الشعر المعاصر" حينما عالجت الشعر الحر بوصفه ظاهرة عروضية لا غير، وتجد فيه تطويراً لعروض الخليل، وتدعو الشعراء الجدد الى الالتزام بقوانين العروض التقليدية، وكأنها لا تريد لهم التجريب ابعد من الخطوة الاولى التي خطوها في جعل البيت التفعيلي لا البيت الشعري اساساً للشعر الجديد. وهذا ما اعترض عليه الشاعر العلامة مصطفى جمال الدين حينما اعتبر قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة انموذجاً لموشح اندلسي لا قصيدة من الشعر الحر، بفعل طرائق التعبير واختلاف المضامين وطريقة معالجة هذه المضامين.
وثاني هذا التصنيف الذي يندرج فيه (الاتجاه المعتدل) يتمثل بالجزء الاكبر من نتاج الشعر الحر منذ نشوئه، وابرز شعراء هذا الاتجاه بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان من الجيل الاول، وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي واحمد عبد المعطي حجازي في مصر، وما تبعهم من شعراء في مختلف ارجاء الوطن العربي، وهم باختصار من جمعوا العروض التقليدي والعروض الجديد في قصائدهم، وكانت تجاربهم في الجمع بين بحرين في القصيدة الواحدة، او النظم في الابحر الممزوجة من نوعين ومن التفعيلات. اما اخطر وثالث هذا التصنيف في عرف الدكتورة حياة جاسم محمد، فيتمثل بالاتجاه الراديكالي المتطرف الذي قادته مجلة "شعر" اللبنانية خلال نهاية الخمسينيات والنصف الاول من الستينيات، ومن ابرز ممثليه يوسف الخال وادونيس وتوفيق صايغ وأنسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا وسركون بولص وفاضل العزاوي. ويلاحظ ان هؤلاء الشعراء انفسهم – في الاغلب – كانوا ناقدي هذا الاتجاه ودارسيه. ويندرج اغلب شعر هؤلاء المتطرفين تحت الشعر الحر – وفق تحديدهم له – وقصيدة النثر، واذا كتبوا شعر التفعيلة احدثوا فيه الكثير من التغييرات.
والآن، وبعد كل هذا التاريخ المتألق لحركة الشعر الحر في العراق، اما آن الاوان لنقول ان القضية ليست شعرا تقليديا وشعرا حرا، ولكنها قضية شعر جيد وشعر رديء، ويقع الجيد والرديء في الشعر التقليدي كما يقع في الشعر الحر.
ومع ذلك، وبعد كل هذه الفتوحات والكشوفات الفنية التي حققها الشعر العربي المعاصر يحق لنا ان نتساءل، كما تساءل الناقد العراقي الحصيف فاضل ثامر ذات يوم: "اين تقف اليوم حركة الحداثة الشعرية العربية عموماً، والعراقية بشكل أخص؟ هل هي حقاً في منطقة جمود وأزمة، او تراجع وتعثر، كما يوحي بذلك النقاد؟ أهي في مرحلة مراجعة لمعرفة الانجازات والاخفاقات ولتلمس حدود الخطوة القادمة؟".
واحسب ان كل شاعر جاد ينبغي ان تكون له مثل هذه الاسئلة او أوسع منها، لتتسع آفاقه وتغتني تجربته، وتكوين هذه القاعدة هو اليوم أيسر بكثير مما كان عليه في الماضي.