منذ أن اعتلى "صدام حسين" جمل السلطة وقاده في صحاري قاحلة وغير مطروقة، والعراق ينزف كفاءاته، العلمية والأدبية، من علماء وأطباء ومهندسين، وجموع من المثقفين، ليستقروا في المنافي البعيدة، الموزعة في جهات المعمورة الأربع، بالضد من رغباتهم وطموحاتهم وحلمهم في خدمة وطنهم، الذي ظل هاجساً يؤرق الكثيرين منهم، وهم يرون ما حلّ بشعبهم من ماَسي وويلات، لا يمكن وصفها إلا بأنها خارج التغطية البشرية.
ما تقدمه الكفاءات العراقية من ابتكارات وإبداعات تَجري على كل لسان، أينما حطت بأصحابها عصا الترحال، فهم لا يبخلون بتقديم عصارة أذهانهم ومهاراتهم إلى الشعوب التي احتضنتهم وقدمت لهم ما عجز الوطن، أو بالأحرى حكامه عن تقديمه لهم، ولا سيما على صعيد الكرامة الشخصية والوطنية، وقد استطاعوا أن يثبتوا بما لا يقبل الشك، أن شعبهم العراقي يمتلك من الأصالة والذكاء ما يفخرون به ويجسدونه في حياتهم العملية.
إليكم واحدة من عدد لا يحصى من هذه الكفاءات ذات المواصفات العالمية:
في الصين رفض طلب "دينج هسياوبنج" الأب الروحي لنهضتها الحديثة سبع مرات للاستعانة بخبير تنمية إدارية واقتصادية عالمي، لغرض المساعدة في النهوض بالواقع المتردي للاقتصاد الصيني في تلك الفترة، لكنه لم ييأس ونجح في المرة الثامنة، وخاطب هو شخصياً كلية الإدارة والاقتصاد والسياسة في جامعة أكسفورد البريطانية الأولى عالمياً في هذا التخصص، وأبلغهم برغبة الصين في التعاقد مع بروفيسور متخصص يعمل بصفة مستشار أول للحكومة الصينية.
رفضت الجامعة طلبه في البداية، لكنها قبلت فيما بعد، لان العرض الجديد كان مغرياً، وهو أن يدفع له خمسة أضعاف راتبه الحالي، وكل رواتبه للسنة الماضية، مع امتيازات إضافية كتذاكر السفر المجانية لثلاث مرات في السنة وعطلة (60 يوماً) سنوياً مدفوعة الثمن.
وقد وقع الاختيار على الخبير الاستراتيجي البروفسور العراقي "إلياس كَوركَيس" الأستاذ في جامعة "أكسفورد" فبدأ عمله في المناطق الريفية بتدشين نظام الأسر المنتجة، ثم القيام باصلاح القطاع الصناعي، وتدشين الانفتاح الاقتصادي على دول العالم المختلفة، كما ساعد بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية.
وبعد ثلاث سنوات وضع خطة استراتيجية لكل وزارة من الوزارات الصينية وسرعان ما أخذت تجربته الإصلاحية للاقتصاد الصيني تظهر للعيان، وبدأ يتبلور مفهوم اقتصاد السوق الاشتراكي، الأمر الذي أدى في المطاف الأخير إلى تحول الصين إلى عملاق اقتصادي، تفوقت فيه على إنكلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وسوف تنتزع المرتبة الأولى من الولايات المتحدة الأمريكية قريبا!
فهل يصح القول إن العراق أصبح قوة طاردة لخيرة أبنائه من الذين تأبى الكفاءة أن تفارقهم والعقل المتقد ذكاء أن يبتعد عنهم؟ الكثيرون يجيبون بـ "نعم" كبيرة، ليس فقط لمن أجبر على حياة المنفى، وإنما للذين تشبثوا بأرض الوطن كما تتشبث النخلة بجذورها أيضاً، ليبقى المتسلقون، والباحثون عن الخبرة المزيفة في نفايات المحاصصة، والسلطة المغتصبة، هم الذين يديرون العجلة، وإن كان دورانها إلى الوراء!
متى نداوي جراح العراق، بأيدي من يمتلك الدواء والمبضع النظيف، بدلاً من أصحاب الأدوات والعقول الملوثة؟

عرض مقالات: