تمر بعد غد السبت، الذكرى السبعون لوثبة الشعب العراقي في كانون الثاني 1948، التي انفجرت ردا على توقيع رئيس الوزراء صالح جبر في مدينة بورتسمورث البريطانية، المعاهدة الجائرة التي جاءت اشد وطأة واذلالا للشعب العراقي واكثر انتهاكا لسيادة العراق واستقلاله، من المعاهدة العراقية البريطانية السابقة المعقودة سنة 1930. اذ لم يكن حبر توقيع المعاهدة قد جف بعد حتى انطلقت جماهير الشعب في مظاهرات وفعاليات احتجاج عارمة، تمثلت طليعتها في اضرابات الطلبة والعمال. وسرعان ما تشكلت لجان للتعاون والتنسيق لتنظيم الانتفاضة ليس فقط ضد المعاهدة الاسترقاقية الجديدة، بل واحتجاجا على الازمة المستفحلة في البلاد والمتجلية في تقويض الحريات العامة وتدهور الاحوال المعيشية للمواطنين، بسبب نهج نظام الحكم الملكي الرجعيوعلى رأسه نوري سعيد والوصي عبد الاله.

وفي صباح 27 كانون الثاني 1948، تحركت الجماهير في بغداد من شارع الرشيد وقنبر علي وباب الشيخ والفضل والكاظمية والكرادة والاعظمية، لتتظاهر وتشتبك مع قوات الشرطة، التي فشلت خططها لتطويق الهيجان الثوري للجماهير.

وقد اسهم حزبنا الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق يوسف سلمان يوسف(فهد) وهو في السجن حينذاك، في تعبئة وتنظيم الجماهير المنتفضة بالتعاون مع الاحزاب الوطنية الاخرى في اطار " لجنة التعاون الوطني". وبلور الحزب شعارات ومطالب الوثبة في الغاء معاهدتي 1930 وبورتسمورث، وجلاء الجيوش الاجنبية، واطلاق الحريات الديمقراطية وبضمنها حرية التنظيم، وتوفير الخبز للناس، واسقاط حكومة صالح جبر، ومحاكمة مدير الشرطة وقبله نوري السعيد رجل الاستعمار الاول، واطلاق سراح السجناء والموقوفين السياسيين ، وحل المجلس النيابي، وتأليف حكومة مؤقتة من الاحزاب الوطنية. وبيّن الحزب ان مقياس وطنية اية حكومة يكمن قبل كل شيء في موقفها من المطالب الوطنية الديمقراطية التي رفعتها الجماهير.

وقد افلحت حركة الجماهير المنتفضة في خضم الوثبة في فرض مطاليبها وتحقيق هدفيها الرئيسيين، وهما الغاء المعاهدة الجائرة واسقاط حكومة صالح جبر، الذي فرّ مع معلمه نوري السعيد الى خارج البلاد.

ومنذ ذلك التاريخ ووثبة كانون المجيدة تعتبر واحدة من اكبر المعارك الوطنية التي خاضها شعبنا، وغدت امثولة بالنسبة لشعبنا العراقي في جولاته النضالية اللاحقة، وظلت دروسها الغنية ماثلة امام حركته الوطنية الديمقراطية في كفاحها ضد الاستعمار وقوى الاستبداد والطغاة. كما انها جسدت المضمون الحقيقي لوحدة كفاح الشعب بمعظم فئاته وطبقاته الاجتماعية وقواه السياسية الوطنية الحية، وعكست عمق الاخوة العربية والكردية. وفي غمرة التلاحم الميداني الذي شهدته سوح النضال الجماهيري، لم يميز احد في ايامها بين دين ودين ومذهب ومذهب وقومية واخرى وغني وفقير. وفي خضم الوثبة ترسخ ايمان العراقيين بقيم الذود عن الوطن والدفاع عن سيادة البلاد واستقلالها والحفاظ على خيراتها وثرواتها.

لقد عكست الوثبة المستوى العالي للوعي الوطني، والاستعداد لخوض النضال المشروع ضد الاضطهاد والجور، وتحولت بمآثرها وانتصارها الى نبراس مطرز بالدماء الزكية لشهدائها الشباب الابرار من كل تلاوين شعبنا العراقي. وقد مجدها الجواهري الكبير وخلد شهداءها، ومن بينهم اخوه جعفر، في اكثر من قصيدة، لعل اشهرها "أخي جعفر" ومنها:

اتعلم ان رقاب الطغاة أثقلها الغنم والمأثم

وان بطون العتاة التي من السحت تهضم ما تهضم

وان البغيّ الذي يدعي من المجد ما لم تحز "مريم"

ستنهد ان فار هذا الدم وصوّت هذا الفم الاعجم

وكان لحزبنا الشيوعي العراقي دوره المشهود في التحضير للوثبة، وفي تعبئة وتنظيم الجماهير لخوضها، وفي تأمين وحدة حركتها وشعاراتها، الامر الذي زاد من حقد الحكام فوجدوها فرصة للانتقام منه بالتعجيل في اعدام قادته الميامين المكبلين في غياهب السجون: الرفاق يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم(حازم) وحسين محمد الشبيبي(صارم).

ان علينا في الوقت الذي نستذكر فيه وثبة كانون المجيدة، باعتبارها احد اول معارك النضال الوطني والديمقراطي لشعبنا، ان نسعى الى استلهام دروسها في كفاحنا اليوم لجمع القوى المدنية الديمقراطية والوطنية في مواجهة المخاطر المحيقة ببلادنا، ومن اجل تجاوز ازمتها الخانقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، الناجمة عن نهج المحاصصة والطائفية السياسية، الذي بنيت عليه العملية السياسية. فلا بد من اصطفاف وطني ديمقراطي مدني واسع، يعبر عن مصالح غالبية المواطنين العظمى، ويؤسس لمشروع سياسي غايته تحقيق تطلعاتهم المشروعة.

وعلى هذا الطريق جاء تشكيل تحالف "سائرون" وفقا لمشروع وبرنامج مدنيين وطنيين ديمقراطيين، يخوض استنادا اليهما الانتخابات القادمة في مواجهة المشروع الطائفي المدمر، ويفتح امام شعبنا افق التغيير المنشود، بالخلاص من نار المحاصصة الطائفية - الاثنية البغيضة، واقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.

طريق الشعب 25 كانون الثاني 2018