إمبلا" هي كلمة عربية ليس لها موازٍ دقيق بالعبرية. ومعناها "نعم بالذات"، أو "رغم كل شيء". مجموعة نشطاء يساريين مقدسيين يعتزمون اقامة مركز ثقافي ونشاط جديد في المدينة تحت اسم "إمبلا". والمؤسسون طلبوا مني ان احاضر بروح المكان الجديد. بعد التفكير اخترت أن اتحدث عن انتصارات الفلسطينيين على الاحتلال في القدس.
ظاهرا، هذا التعبير متضارب على نحو واضح، إذ لا خلاف بان الفلسطينيين بشكل عام والفلسطينيين في القدس بشكل خاص، مهزومون ومحتلون منذ 50 سنة. مصيرهم ليس في أيديهم، هم عديمو الحقوق، يعانون من ظلم منهجي، من عنف سلطوي، من فقر شديد ومن غياب القيادة. ورغم كل شيء، بودي ان ادعي الامرين بالذات معا. الفلسطينيون بالذات في القدس، من بين كل الجماعات الفلسطينية، اظهروا قوة صمود وتصميم في مواجهة الاحتلال. وهم بالذات من لديهم القوة للتأثير على مستقبل الشعبين.
الانتصار الاول للفلسطينيين في القدس هو الديموغرافيا. واذا كان هناك عامل واحد ثابت في السنوات الخمسين التي مرت منذ 1967، فهو الصمود الفلسطيني في القدس. برغم كل ما يحدث، الفلسطينيون لا يغادرون المدينة. حتى لو كان البقاء يعنى العيش في ظروف صعبة في احياء مكتظة. وهكذا، رغم المساعي الجبارة من جانب حكومات إسرائيل للحفاظ على الاغلبية اليهودية – المساعي التي تضمنت مصادرة واسعة للاراضي واقامة احياء كبرى لليهود على تلك الاراضي – فإن الاغلبية اليهودية في القدس تقلصت من 75 في المئة سنة 1976 إلى 60 في المئة اليوم.
حتى مشروع الاستيطان المزدهر، الذي تقوده جمعيتا "العاد" و"عطيرت كوهانيم"، داخل الاحياء الفلسطينية في مدينة القدس يتخذ صورة مختلفة قليلا عند النظر اليه بعين الديموغرافيا. فالمستوطنات في سلوان بالبلدة القديمة وفي اماكن اخرى، وان كانت تتسع بلا انقطاع على حساب العائلات الفلسطينية، الامر الذي يسبب لها المعاناة، فان عدد المستوطنين في الاحياء الفلسطينية طفيف. إذ بعد 30 سنة من الجهود المركزة، واستثمار مئات ملايين الشواكل (1) والتعاون الوثيق مع الحكومة، لا تزيد نسبة المستوطنين الى عموم السكان في تلك الاحياء على 1 في المئة.
كما لم ينجح المستوطنون في تغيير المجال العام بشكل ذي مغزى. فبفضلهم اضيفت اعلام إسرائيل، وشرطة حرس الحدود، وكاميرات حراسة، لكن "تهويد" احياء شرقي القدس ليس اليوم اقرب مما كان قبل بداية المشروع. ففي 1990 كان يعيش في سلوان 8700 فلسطيني وصفر مستوطن، واليوم يعيش في الحي نحو 500 مستوطن واكثر من 20 الف فلسطيني. علما ان هذا يعتبر النجاح الاكبر للمستوطنين. واذن فمن الصعب الادعاء بان المستوطنين يوشكون على تغيير طبيعة سلوان أو اي حي فلسطيني آخر.
ولكن الديموغرافيا ليست الانتصار الفلسطيني الوحيد في المدينة. فالفلسطينيون في القدس اثبتوا أيضا، المرة تلو الاخرى، انهم يرفضون الاملاءات الإسرائيلية. هكذا كان الحال في التعليم، حيث فشلت إسرائيل في ادخال المنهاج التعليمي الإسرائيلي. وهكذا الحال أيضا في المقاطعة التامة للانتخابات البلدية. مع أن هذه المقاطعة تمس الخدمات التي تتلقاها الاحياء الفلسطينية، ولكنها تشدد على كون شرقي القدس مدينة محتلة. وحتى في موضوع التخطيط والبناء، أدى الظلم للفلسطينيين إلى اعمال بناء واسعة بلا تراخيص، ورغم سياسة هدم البيوت اضطر كل رؤساء بلدية القدس إلى استيعاب حقيقة انه لا يمكن هدم عشرات آلاف المباني. وفي نهاية المطاف ستكون هناك حاجة لمنح الاغلبية الساحقة تراخيص بناء.
لقد أثبت فلسطينيو القدس لإسرائيل أن يدها ليست طليقة في حرم الاقصى ومحيطه. ففي كل مرة حاولت فيها إسرائيل اجراء تغييرات في الوضع القائم فيه، كانت تصطدم بمقاومة شعبية، تصل احيانا إلى عنف في الشارع المقدسي. وكانت ترافق هذه المقاومة احتجاجات من جانب الأردن ودول اخرى، وفي نهاية المطاف اقترنت بتراجع إسرائيلي. وهذا ما حصل في الصيف الماضي في مسألة البوابات الالكترونية في مداخل الحرم. فالمقدسيون، وأعني فلسطينيي القدس، اثبتوا انهم يؤدون باخلاص دورهم كحراس للاقصى. وبعد الاحتجاج غير العنيف في معظمه، والذي استمر اسبوعا، تراجعت إسرائيل وفككت البوابات الالكترونية. وخلف الانتصار احساسا بالقوة والروح الوطنية في اوساط الفلسطينيين في المدينة.
لكن القوة الحقيقية لفلسطينيي القدس تكمن في حقيقة أن إسرائيل لا تعرف ما تفعله بهم. لقد نجحت إسرائيل في عدة خطوات اتخذتها، في تقسيم وتفكيك الشعب الفلسطيني إلى عدة جماعات: لاجئين في الشتات، عرب إسرائيل، سكان الضفة (الذين ينقسمون بين مناطق "أ" و "ب" و "ج")، سكان غزة وسكان القدس. ولكل جماعة "حيكت" بدلة تستهدف ضمان السيطرة الإسرائيلية والانقسام الفلسطيني.
ففي الضفة الغربية تستخدم إسرائيل السلطة الفلسطينية كي تضعف المقاومة للاحتلال؛ وقطاع غزة مغلق جيدا من خلف اسيجة عالية. في الوقت الذي تبذل جهودا لدمج عرب إسرائيل في المجتمع الإسرائيلي، وتوسيع الفوارق بينهم وبين بقية الفلسطينيين. حتى ليبدو ان إسرائيل طورت سياسة فرق تسد وصعد بها الى مستوى الفن.
ولكن من بين كل هذه الجماعات، يضع الـ320 الف فلسطيني مقدسي امام إسرائيل التحدي الذي لا رد لديها عليه. فمن جهة تقوم بلدية القدس ووزارة التعليم ووزارات اخرى في السنوات الاخيرة بمحاولة "احتضان" لسكان شرقي القدس، وتمرير سياقات أسرلة عليهم، مثل اخوانهم من المثلث والشمال. ومن جهة اخرى، تحرص وزارة الداخلية، وفق تعليمات من فوق دون ريب، على الا تسمح لفلسطينيي القدس بالتجنس، والحصول على حق التصويت في انتخابات الكنيست ليصبحوا بحق جزءا من المجتمع الإسرائيلي.
فمثل هذا التجنس الجماعي هو بالنسبة الى اصحاب القرار في إسرائيل سيناريو رعب، خاصة لكتلة اليمين؛ والاسوأ من ذلك، انه حقا يقضي على أي حل سياسي ويعني ان إسرائيل تسير نحو مستقبل دولة واحدة ثنائية القومية. فلا يتبقى سوى اختيار نوع نظام الحكم المطلوب لها: ابرتهايد ذي نزعة تسلطية يحافظ على الطابع الصهيوني للدولة، ام ديمقراطية تفكك إسرائيل وتجردها من مزاياها الصهيونية.
من هنا، فإن فلسطينيي القدس هم وحدهم، من بين كل الجماعات الفلسطينية، الذين يمسكون بمفاتيح لمستقبلهم ومستقبلنا. هم من يتسمعون اليـأس من المسيرة السياسية في اقوال محمود عباس، ومن يتفهمون حقيقة ان حلم الدولة الفلسطينية التي عاصمتها القدس آخذ في الافول. ولكن بوسعهم، على عكس الجماعات الفلسطينية الاخرى أن ينتقلوا على الفور من كفاح لاجل السيادة إلى كفاح لاجل المساواة والمطالبة بالجنسية.
وعمليا، يجري هذا الكفاح منذ الان في الميدان، ويمكن له - اكثر من قسام حماس ومن الحجارة التي ترشق في قرى الضفة- ان يكون الكفاح الذي يرسم مستقبل إسرائيل وفلسطين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن موقع
حزب الشعب الفلسطيني