ترجمة: رشيد غويلب

اجرى موقع "Le Vent Se Lève" الفرنسي حوارا مع ديفيد بيستيو نائب رئيس حزب العمل البلجيكي. نقدم ترجمة لنص الحوار المنشور في 14 شباط 2018 في موقع "شيوعيون" الالماني.

آخر استطلاعات الرأي اعطت حزب العمل البلجيكي في مقاطعة والينا الناطقة بالفرنسية 15 - 19 بالمائة، وهي نسبة سيتجاوز فيها، خلال انتخابات 2018/ 2019 الحزب، الحزب الاشتراكي (ديمقراطي اجتماعي). وهو توقع خلق حالة من الاضطراب في اوساط الشركات والاحزاب التقليدية السائدة. هل سيشارك حزب العمل في الحكومة المقبلة؟ اذا كان الجواب بايجاب، فما هي شروطه؟ كيف يفسر تراجع الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية في اوربا؟ هل حزب العمل البلجيكي شعبوي؟ ما هي الدروس المستخلصة من تجربة حزب اليسار اليوناني؟ كيف يمكن مواجهة تأثير المؤسسات السائدة، السياسي والاعلامي؟

 الموقع: برز حزب العمل في السنوات الاخيرة كقوة سياسية رئيسة في بلجيكا. ويستند هذا الصعود الى عمل صبور بدأ في عام 2008، عندما اقدم الحزب على قطيعة استراتيجية مع خطابه السابق. ومنذ التغيير لا تتحدثون مباشرة عن الطبقة العاملة، بل عن "الناس"، انطلاقا من شعار "اولوية الناس على الربح". وغاليا ما تتهم الأحزاب الشعوبية في أوروبا بالتخلي عن التحليل الطبقي من أجل بناء ما يُطلق عليه (neue Lateralitäten) "الهيمنة الجديدة". كيف تجدون العلاقة بين التغير في لغتكم في التوصيف، والحفاظ على نمط - ثقافة الصراع الطبقي؟

دافيد: في الواقع نحن لم نتخلَ عن التحليل الطبقي: فعندما تقرأ وثائق مؤتمر التجديد في عام 2008 ومؤتمر التضامن في عام 2015 لحزبنا، ستجد أن طبقة العاملين تشغل مركز الاهتمام. وطبقة الناس العاملين بالنسبة لنا هي كل الناس الذين يبيعون عملهم ليعيشوا. هناك أربعة ملايين من الأُجراء في بلجيكا.

وبالطبع، فان الوضع ليس كما كان قبل 50 عاما. ولكن بمعنى ما يمكن ان يفاجئ البعض، فان طبقة العاملين اكبر مما كانت عليه في السابق، متنزعة ومنقسمة. ونحن لا نواجه اليوم الشركات الكبرى وجها لوجه. اليوم هناك سلاسل الانتاج العملاقة من المقاولين والمقاولين الثانويين، مزيدا من الترابط بين الشركات، وتجزئة اكثر اتساعا لجماعات العمل. وبالأساس لا يزال التضاد بين رأس المال والعمل قائما، ولكنه أقل وضوحا وأقل تركيزا. وعلى هذا الاساس نعرف حزبنا بأنه حزب ماركسي وحزب يعتمد تحليلا طبقيا. ان قضية وعمل اليسار الجذري تكمن في فهم كيفية اعادة الوعي الطبقي الى العاملين المنقسمين وغير المستقرين. وهذه مهمة كبيرة.

نحن لا نتفق مع فكرة أن الطبقات سوف تختفي في التسمية العمومية "الشعب". وبالضد من ذلك نتفق مع حقيقة، ان طبقة العاملين لا تدرك بأنها طبقة، او انها قادرة على تغيير المجتمع. ولهذا فان الأمر يتعلق بتطوير استعادة عمل التوعية، التعبئة، تنظيم طبقة العاملين. وبالتالي علينا استخدام مفردات تؤدي الى العودة الى هذا التضاد. وعندما رفعنا شعار "أولوية الناس على الربح"، وضعنا "الناس" في المركز، لكننا، وقبل كل شيء، ابرزنا التضاد مع الربح.

ومنذ سنوات عملنا على استخدام صياغات مفهومة، من جهة تمكننا من مخاطبة الجميع، أي ليس لغة المتعمقين. ومن جهة أخرى لا تحصر نفسها بشمول الجميع فقط: نحن نريد جذب الناس للتفكير، لكي يتطوروا. نحن نطبق نهج حزب ماركسي معاصر، يحاول ادراك الواقع، في عصر تتخذ فيه قوى اليسار موقفا دفاعيا. وكيف هي الحالة اليوم؟ في القرن الحادي والعشرين، وكيف يمكننا النضال لتحقيق الهيمنة الثقافية على عدد من المفاهيم، المفردات، واشكال الوعي.

الموقع: كيف يمكنك التعامل مع التناقض بين إحياء المفاهيم الماركسية التي ربما تم إهمالها، وتأكيد حداثة سياسية؟

دافيد: لا أدري إذا ما كان هذا نهجا خاصا، ولكنه نهج تم تطويره من خلال ممارستنا العملية. لقد ثبت لدينا، اننا غير مسموعين بما فيه الكفاية، على الرغم من حقيقة توصلنا الى تحليل جدي وعميق لازمة النظام الرأسمالي. وبدأنا التفكير في هذا الموضوع في عام 2008. لقد درسنا، على وجه الخصوص، نوع وأسلوب تنفيذ نشاطات اجتماعية قادرة على شمول عشرات الآلاف من البشر، وكذلك كيفية ايصال رسالتنا لهم. في السابق كان لدينا مجموعة من الأفكار والمفاهيم، نقوم بنثرها على الناس، بدلا من ان نحاول، عرض تلك الأفكار بإيقاع، يمكن بواسطته التعامل معها.

لدينا رسالة، ولدينا اساس، ولدينا تحليل شامل، وفي كل مرحلة، وفي كل دورة، نحاول معرفة، ما الذي يمكن ان نضعه في الاجندة السياسية، وما هي الموضوعات، التي ستدفع النقاش، في سياق معين، الى امام.

لنأخذ، مثلا، ملف الضرائب المفروضة على الشركات، والحقيقة ان الشركات متعددة الجنسيات، لا تدفع سوى القليل من الضرائب. ونحن نطرح الموضوع بشكل ملموس، بدلا من العمومية وتطوير مفاهيم كبيرة. عند إغلاق مصنع أرسيلور - ميتال في لييجن، استنكرنا حقيقة أن هذه الشركة دفعت 476 يورو فقط  كضرائب. وعلى اثر ذلك تفجرت مواجهة بسبب عدم العدالة، وبسبب التسريح الجماعي للعاملين، وحقيقة أن هذه الشركة متعددة الجنسيات الكبيرة دفعت ضرائب أقل من عمالها، الذين سرحوا بشكل جماعي. والمسألة ليست تنظيم دورة في الاقتصاد الماركسي لطلبة الدكتوراه من الدرجة الثالثة في علم لاقتصاد، بل في تفعيل التفكير لدى عشرات الآلاف من العمال: "انظروا، على الرغم من كل شيء في هذا المجتمع، هناك مشكلة بين انخفاض الضرائب المفروضة على الشركات الكبرى والطريقة التي ندفع بها ضرائبنا".

ونحن نخصص الكثير من الوقت في استشارة الناس، لمعرفة ما يشغل بالهم. عندما تتحدث عن اشياء لم يتعاملوا معها، يمكنك الحديث كما تريد، ولكن ذلك لن يكون مثمرا. يجب الانطلاق من الاشياء التي تثير اهتمامهم، ومن ثم القيام بالتوسع بالمقولات.

الموقع: يعتبر راؤول هيديبو رمزا لحزبكم، ولكنه ليس رئيسا للحزب، بل احد المتحدثين باسمه فقط. ماذا يعني هذا، ارتباطا بتحليلك لمشكلة القيصرية السياسية؟

دافيد: لقد تم اتخاذ قرار بالفعل. بسبب تقاليدنا الجماعية واجهنا مشكلة: ان الفضاء السياسي والاعلامي تملأه شخصيات، اناس يتم دفعهم الى المقدمة. لقد حاولنا بانتظام وضع شخصية الحزب الجماعية في المقدمة. ونعلم الآن ان هذا الاسلوب لم يؤد وظيفته، اذا لا يتم الاعتماد على شخصيات، نقوم ببناء شعبيتها. وفي عام 2005 قررنا اختيار شخصيتين وجعلها شعبية: رئيس الحزب بيتر مارتينز، بشكل أساسي في المناطق الناطقة بالهولندية، وراؤول هيديبو، في المناطق الناطقة بالفرنسية. وهذا يفسر اننا قررنا "الدخول في اللعبة"، وتركيز التواصل، على الأقل في البداية، على هاتين الشخصيتين. ولكن مع فكرة ان هاتين الشخصيتين تمثلان كلمة المجموع باستمرار، اي ان التوجهات الاساسية، التي تأتي عبر اصوات متحدثينا في وسائل الاعلام، هو حصيلة المناقشات الجماعية. وهم لا يقررون بشأن مشروعنا، لأنهم حلقوا في صباح يوم من الايام ذقونهم، فهذا لا يجوز، وبالنتيجة نحن وبالمطلق لا ننسجم مع اي شكل من القيصيرية، او فكرة رجل العناية الإلهية.

الموقع: نود العودة الى الكيفية التي تصنفون بواسطتها النضالات الاجتماعية في المنطقة المعينة، وتطوير المبادرات والبدائل. ونشير هنا الى الـ"منفيستو" (المهرجان السنوي لمجلة الحزب "التضامن")، العديد من منظماتكم الشبابية، المجلات الجديدة.. هل يجرى هذا كله في اطار استراتيجية بناء نوع من المجتمع المضاد؟

 دافيد: من ناحية، هناك نضالات اجتماعية. وفي الواقع ان النضالات الاجتماعية تمثل الحمض النووي لحزبنا. وهذا يعني، اذا اردنا تحقيق تغييرات كبيرة في المجمتع، يجب علينا تطوير توازن القوى المطلوب. انهم الناس، الجماهير، التي تصنع التاريخ، كما قال ماركس. وبواسطة حركات اجتماعية مؤثرة يستطيع المرء الوصول الى تغيرات عميقة وتحولات في التاريخ. ومن المنطقي، ان نستثمر الكثير من الطاقة في العمل الاجتماعي، سواء كان ذلك على صعيد العمل في النقابات، او على صعيد الجمعيات في الاحياء السكنية.

نحن نرى أن العمال والشبيبة ومختلف المجموعات الفاعلة من السكان يجب أن يهتموا بالشؤون العامة والشؤون السياسية. وأن عليهم أن يكونوا فاعلين في السياسة وليسوا مستهلكين لها. وهذه رؤية مختلفة تماما عن الرؤية التقليدية للتمثيل، والتي تقتصر على المشاركة في الانتخابات كل أربع أو خمس أو ست سنوات، وفق البلد  المعين، دون أي شكل آخر من أشكال المشاركة الديمقراطية؛ حيث يفوض المرء سلطته لممثلين محترفين، يمتلكون السلطة، ويمثلون في الغالب مصالح مختلفة عن مصالح الشعب أو الذين انتخبوهم.

العنصر الثاني هو أننا نرى أن تطور هذا النضال الاجتماعي يجري أيضا بالارتباط مع صراع الأفكار. ونحن نستثمر الكثير من الجهد في الـ"منفيستو"، المهرجان الذي اطلقناه سوية. ولا يمكننا أن ننكر أننا انطلقنا من تجارب المهرجانات الأخرى التي أقامتها الأحزاب الشيوعية والعالمية، مثل مهرجان اللومانتيه في فرنسا أو مهرجان أفانتي في البرتغال، حيث نجحوا في اقامة مهرجانات شعبية، جسدت الترابط الوثيق بين الثقافة الشعبية والنقاش السياسي. قد لا يكون هدفنا خلق مجتمع مضاد، ولكن على أي حال، هيمنة ثقافية مضادة. نركز في موقع واحد على جوانب مختلفة، سواء كان النضال ضد الظلم الاجتماعي، ولكن أيضا ضد العنصرية، ومن أجل السلام، من أجل المناخ، من أجل الحقوق الديمقراطية - وفي مختلف المواضيع التي نحاول العمل فيها، نحاول طرحها مجتمعة في هذا المهرجان، الذي ينظم بشكل مشترك من قبل جريدتنا "تضامن" ومنظمة "الطب للشعب" التابعة لحزبنا.

 الموقع: لنعود ثانية إلى السياسة العامة في بلجيكا، تعبرون عن سعادتكم بأرقام استطلاعات الرأي الجيدة التي اعلنت مؤخرا، على الأقل في الجزء الناطق بالفرنسية. وتميل بعض وسائل الإعلام البلجيكية الى توقع اعادة السيناريو البرتغالي في انتخابات 2019 المقبلة (ازاحة اليمين عبر تشكيل تحالف يسار الوسط بدعم او اشتراك الشيوعيين وقوى السار الجذري - المترجم). وكان راؤول هيديبو قد أخبر محطة الاذاعة والتلفزيون الفرنسية: "لن نشارك في السلطة خلال 10 -15 قادمة على الأقل". تتجنبون دائما مسألة المشاركة في السلطة. ما هي رؤيتك لهذا السيناريو؟

 دافيد: سأجيب مستعيرا سخرية صغيرة من الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران (1981 - 1995)، الذي قال "الحكومة لا تعني السلطة". لقد قال ذلك لتبرير عدم قدرته على اتخاذ سلسلة من القرارات السياسية. سأستخدم الاقتباس من زاوية أخرى، لأنني أعتقد بصحته. ان الحكومة اليوم لا تمثل السلطة الحقيقية في المجتمع الرأسمالي. ان سلطة الدولة هي فريق يضم الحكومة، ولكن ايضا عدد كبير من المتطرفين في مجموعات مصالح (لوبي) الشركات المتعددة الجنسية، التي تجلس عمليا بشكل مباشر، وغير مباشر في مجلس الوزراء. يمكنك أن ترى ذلك في فرنسا، وأعتقد أن هذا أمر رائع بالفعل، لأن هناك العديد من اعضاء مجالس إدارة الشركات هم اليوم  وزراء، وعمليا يشاركون في صياغة مشاريع القوانين. وفي بلجيكا، يمكن للمرء أن يرى نفوذ أليكسيا بيرتراند، وزيرة دولة في وزارة الخارجية، التي هي ابنة لوك بيرتراند، الذي يملك واحدة من أكبر ثروات في بلجيكا. وهناك ممثلو فرع مؤسسة جي دي إف السويس (شركة طاقة فرنسية عالمية لها فروع في بلدان عديدة) في بلجيكا، والذين يجلسون في مجلس وزراء وزارة الطاقة. ولذلك لدينا روابط مباشرة وعميقة للغاية بين الشركات متعددة الجنسيات والسياسة البلجيكية.     

ومن جانب آخر، هناك عدد من كبار المسؤولين الذين يمثلون مصالح المؤسسة التقليدية، ومجموعة من ضباط المخابرات وكبار ضباط الشرطة وضباط الجيش الذين يدافعون أيضا عن مصالح المؤسسة. ونحن نقول إن توازنات لعبة الانتخابات الحالية تضعنا في وضع يمكننا أن نكون مشاركين في الحكومة، لكننا لا نستطيع ممارسة أي سلطة حقيقية. وهذا مهم جدا لأنه يحدد استراتيجيتنا كقوة يسارية. إذا كنت ترغب في تغيير المجتمع بشكل جذري، اما إذا كنت ترغب فقط في توزيع مختلف للثروة، ولا تطور وعيا بهذه الحقيقة، فسوف تتبع استراتيجية خاطئة. لقد عاش اليسار الجذري في أوروبا هذه التجربة في اليونان. كانت هناك حكومة تم انتخابها من قبل أغلبية مطلقة في البرلمان، وحزب اليسار اليوناني (سيريزا) طرح برنامجا جذريا مضادا نسبيا لسياسة التقشف، لم يستطع تنفيذه. يمكن للمرء مناقشة البرنامج، لكن لا نستطيع أن ننكر إن طابعه مضاد لعقيدة الليبرالية الجديدة. وكانت النتيجة العملية أنهم كانوا في الحكومة ولكنهم لا يملكون السلطة.

لقد عشنا ذلك، ولقد كانت تجربة استثنائية، سجلها يانس فاروفاكس (وزير مالية اليونان الاسبق - المترجم) في كتابه. منذ الايام الاولى لحكومة اليسار، جرى تسريب قرارات الحكومة اليونانية الى المستشارة الألمانية ميركل والمفوضية الاوربية. وذلك لان موظفين يونانيين كبار يعملون لصالح الادارة الأوربية. لقد كان واضحا للعيان ان الادارة الأوربية واليونانية، يوظفون قواعد اقتصادية صارمة ويمارسون ضغطا على حكومة الكسيس تسبراس، وخاصة قبل الاستفتاء المضاد للتقشف في تموز 2015. لقد جرى خنق الحكومة اليونانية. وكان هناك ضغط، بهذا الشكل او ذاك، مباشر وغير مباشر من الشرطة والمؤسسة العسكرية. لقد تم في اليونان ممارسة استراتيجية الحكم، دون امتلاك السلطة الحقيقية. وفي النهاية ادى ذلك الى ان تختار الحكومة مجبرة بين الخروج من الاتحاد الأوربي، او الخضوع والقبول باملاءات ميركل، وهذا ما فعلوه. وتوجب عليهم تنفيذ برنامج هو النقيض من البرنامج الذي انتخبوا على اساسه، وهو برنامج الاتحاد الأوربي. وهذا ما حدث اليوم، اي في العام 2015، وليس قبل قرن من الزمان.

وبامكاننا التأكيد: إذا اردنا تبني استراتيجية ملائمة لأسئلة عصرنا، وهذا يعني: ازمة الرأسمالية الكبرى، ازمة سياسية، ازمة الديمقراطية، ازمة العلاقات الدولية، عندها يجب وضع السلطة باكملها في موضع تساؤل. ونحن ببساطة نقول، اذا كنا في وضع، قادرين فيه على هزّ هذه السلطة ولو قليلا، فيجب ان يتوفر لدينا قدر كاف من السلطة المضادة. وهذه القوة المضادة لا تعني فقط الحصول على نتيجة انتخابية جيدة. يجب أن تكون هناك حركة في المجتمع، ومنظمة، وقدرة، وبناء هيمنة ايديولوجية، لامتلاك مواقف قوية كافية، نستطيع بها الخروج الى الشارع، عندما يكون هناك ابتزاز اقتصادي. ويجب امتلاك مؤسسات اعلام بديلة، لكي نسمع الناس صوتا مختلفا عن الاعلام الخاص للمؤسسات المملوكة من الملياديرية. ويجب ان يكون لديك اناس قادرون، على سبيل المثال، على خوض النضال في المؤسسات. ويجب ان نكيف انفسنا على استطلاعات الرأي، حتى لو كنا قادرين على تحقيق النجاح الانتخابي، التي تتوقعه هذه الاستطلاعات. يجب ان نكون في وضع قادرين فيه على تنفيذ سياسة مختلفة.

ونحن نقول بصدق للعالم كله: عندما لا نكون في وضع، قادرين فيه على بناء الحد الأدنى من السلطة المضادة، وتتوفر لنا الظروف المواتية، لفرض العديد من مواقفنا، فإننا سنخاطر بسيناريو سيريزا. وهذا يعني، بآمال كبيرة، ننتخب من الشعب، وفي الحكومة يتوجب علينا تنفيذ سياسة مغايرة، لتلك التي انتخبنا على اساسها. من جهة اخرى لا يتوفر لنا الكثير من الوقت لأحداث تغيير، لأن الوضع الاجتماعي للناس يزداد سوءا، وبالتالي يجب أن نملك الوقت الكافي، لنستطيع القيام بشيء مغاير للسياسة المعروفة حاليا في جميع انحاء أوربا. والامر لا يتعلق بفترة، وليس مسألة 10 - 15 سنة. إن هناك العديد من الأزمات في أوروبا في الوقت الراهن. ولذلك يمكن أن تتغير الأمور بسرعة. ولكن يجب توفير عدد من الشروط.

ونحن لا نرى أن هذه الشروط متوفرة، ونحن على قناعة بضرورة أن نصبح اكثر قوة، ليس فقط على الصعيد الانتخابي، وإنما أكثر قوة في المجتمع. وبالاضافة إلى ذلك لدينا نظام للتحالف الحكومي. ونرى في هذه اللحظة تغيرات في القوى التي تسمي نفسها يسارا. لدينا حزب ديمقراطي اجتماعي، هيمن على المشهد السياسي منذ عقود، ولدينا كذلك حزب بيئي. ولكن هذين الحزبين لا يزالان أسيرين لقيودهما التي خضعا لها منذ 30 عاما.

 الموقع: في المؤتمر الاخير للحزب الاشتراكي، الذي انهى اعماله للتو، تبنى الحزب نوعا من "الانعطاف نحو اليسار"، هذا من جهة، ومن جهة اخرى رفض حكومة ولاية والون التي يقودها، لاتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوربي وكندا. فما هي الدوافع الحقيقية وراء توجه الاشتراكيين هل هي ايديولوجية حقة، أم الهدف منها احتواء صعودكم؟

 دافيد: أعتقد أنه يجب أولا معالجة مشكلة الحزب الاشتراكي البلجيكي في المناطق الناطقة بالفرنسية. هناك حزبان اشتراكيان في بلجيكا، أحدهما في المناطق الناطقة بالهولندية، والآخر في المناطق الناطقة بالفرنسية. لقد ظل حزب المناطق الناطقة بالفرنسية، حتى الآن متميزا، لأنه لا يزال يتمتع بنفوذ كبير. في الانتخابات الأخيرة حصل في جنوب البلاد على 32 في المائة من الأصوات. لكنه، مثل كل الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية في جميع أنحاء أوروبا، يواجه تراجعا في تأثيره. وهذا لأن نجاح الاحزاب الديمقراطية الاجتماعية، منذ 1945 يعود لظاهرتين: حركة عمالية قوية جدا استطاعت تحقيق مكاسب اجتماعية. وثانيا، واجهت البورجوازية الأوروبية، حقيقة وجود نظام آخر، هو النظام الاشتراكي في شرق القارة. وبغض النظر عن الطريقة التي يقيّم بها المرء النظام الاشتراكي، فلقد كان على البرجوازية في غرب القارة تقديم تنازلات لمنع الطبقة العاملة من التحول إلى هذا النظام.

 قال إنزو ترافرسو (مؤرخ ايطالي مقيم في باريس)، أن الديمقراطية الاجتماعية، بمعنى ما، هي نتيجة ثانوية لثورة أكتوبر. ولن أذهب معه بعيدا، لكن على أي حال، فإن النجاح الذي حققته الديمقراطية الاجتماعية يرتبط بلحظة خاصة جدا للرأسمالية، لا تظهر بأي حال من الأحوال وجهها الحقيقي والطبيعي. وإذا نظرنا عن كثب، فإن الرأسمالية عانت منذ القرن التاسع عشر من أزمات أكثر من حالات الاستقرار. وترتبط  السنوات الـ30 - 35 الشهيرة ما بين 1945 - 1980، والتي تمثل أيام مجد الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، بفترة معينة من إعادة بناء حركة عمالية قوية ووجود نظام منافس.

في التسعينيات، أتاح التحول إلى الليبرالية الاجتماعية للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية أن تتحول لبعض الوقت الى سياسة ما يسمى بـ "سياسة اهون الشرين" ("بدوننا سيكون الوضع  أسوأ"). ومع اندلاع أزمة عام 2008، سعى الناس للبحث عن علاجهم لدى الاحزاب التقليدية (في فرنسا ساركوزي، ثم هولاند)، والتي لم تستطع اخراج طبقات الشعب الدنيا من الأزمة. واليوم ولبعض الوقت، تعيش هذه القوى السياسية التقليدية أزمة سياسية كبيرة. لذلك كان من المنطقي أن تشمل هذه الظاهرة بلجيكا ايضا.

 الموقع: إن خصوصية بلجيكا الناطقة باللغة الفرنسية هي أن هذا الانهيار في الديمقراطية الاجتماعية، لم يكن لصالح اليمين المتطرف، ولكن أيضا لصالح قوى اليسار الجذري. إن أزمة الديمقراطية الاجتماعية هي ظاهرة عميقة، فهل تستطيع تجديد نفسها، أم انها وصلت إلى حدودها؟

 دافيد: اذا نظرنا لمؤتمر الحزب الاشتراكي، فسنجد بوضوح انه يتفاعل مع حضور حزب العمل البلجيكي. لم يكن للحزب الاشتراكي  في السابق منافس خطير على يساره. لقد امتلك على الدوام  قاعدة ناخبين ما بين 25 – 40 في المائة من الأصوات. واليوم يتجه جزء من هذه القاعدة نحو حزب العمل البلجيكي. والحزب الاشتراكي يتبنى او يستنسخ بعض افكار حزب العمل البلجيكي. لكنه لم يغير في الأساس تركيزه على الانسجام مع النظام الحالي. ويمكنك ان ترى ذلك جيدا في البيانات الأولى: "هذا برنامج طويل الأمد"، "سنرى عندما ندخل التحالف". اي انه ليس هناك تأثير ولو قليل لما اعلنوه. وهذا ما عشناه مع الرئيس الفرنسي السابق فرانسو هولاند: "سأخوض حرباً ضد الاقتصاد المالي"، "سوف أراجع المعاهدات الأوربية"، وبعدها رأينا ماذا كانت النتيجة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص في الحزب الاشتراكي البلجيكي الذين يمثلون هذا التغيير ليسوا أشخاصا جدد؛ ولقد مارسوا في الغالب السياسة الاجتماعية الليبرالية لمدة ما بين  20 - 30 عاما. وكان ايليو دي روبو على رأس الحزب لأكثر من 20 سنة!

وإذا سُئلوا: "هل ستناضلون بجدية ضد سياسة الاتحاد الأوربي؟". وبتعبير آخر:"هل ستتمردون على المعاهدات الأوربية؟"، يقولون في الجوهر "لا". وسأسوق مثالا ملموسا للغاية هو "رفع القيود" عن النقل في السكك الحديد في عام 2023. وهنا يوجه لهم السؤال التالي: "هل ستكونون ضد الحفاظ على احتكار القطاع العام؟ وعدم ابداله بالتعليمات الأوربية؟"، سيكون جوابهم "لا". وينطبق الشيء نفسه على السوق الأوروبية لحقوق انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الشركات الكبيرة، ما يعني أنه لا يوجد شيء جدي، يتم القيام به ضد ظاهرة الاحتباس الحراري، وأن الشركات متعددة الجنسيات تواصل تلويث الهواء. ويمكن للمرء أن يذكر أمثلة أخرى كثيرة من هذا النوع.

نحن ندعو إلى اتخاذ تدابير ملموسة بشأن قضايا محددة، ويمكن أن نرى أن هناك "رفضا" مباشرا من قبل للديمقراطيين الاجتماعيين. وبعد ثلاثين عاما من الليبرالية الجديدة، يجب أن نبدأ في تحديد التدابير وأطرها التي ستقلب اجراءات التقشف واللبرلة رأسا على عقب. لأننا نعلم أن هذا الإطار موجود للاستمرار في اتباع السياسة ذاتها مرارا وتكرارا. لا أدري كيف سيكون موقف الحزب الاشتراكي البلجيكي، الذي أعلن نيته البقاء ضمن هذا الإطار. هل سيتحرك إلى اليسار أكثر مما كان عليه سيريزا؟

 الموقع: في الآونة الأخيرة، يبدو أن وسائل الإعلام البلجيكية الكبيرة ينتابها خوف حقيقي من اللون الأحمر. كيف تتعاملون مع بعض الصحف التي تحاول أن تقدمكم بصورة الشيوعي الذي يعض بأسنانه على سكين؟ ألستم خائفين من الظهور كفزاعة؟ 

 دافيد: في البدء، لا بدّ من تحليل ظاهرة الخوف من اللون الأحمر. هناك نوعان يتداخلان، صحافة اليمين التقليدية، والمبالغة حد خوض النضال السياسي بواسطة الكاريكتير. وهذا ما رأيناه في رسوم الكاريركتير، خلال حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية ضد مرشح اليسار ميلنشون. لقد حاولوا اخراج جميع الجرائم الممكنة للنظام الاشتراكي تقريبا، خلال 100 عام، في دائرة قطرها 10 كيلومترات.

 الموقع: ولكن حركة "فرنسا الأبية" بزعامة ملينشون كانت أكثر حذرا منك. وقدمت العديد من المعايير. وهذا السياق يستطيع المرء التخلي عن الأحمر كلون، أو التفكير الأممي.

 دافيد: نعم، بالطبع، ولكن ما أردت قوله، أن الأمر لا مفرّ منه: عندما تخوض نضالا تشكك في جملة من دوغما الليبرالية الجديدة، فستتم مهاجمتك، وبمكانك ان تمتلك ما شئت من الألوان، وعندما تكون رسالتها القليل من الشك بالليبرالية الجديدة، فستوجه كل الإهانات الممكنة لك.

قرأت ذات مرة خطاباً لبرلسكوني (رئيس وزراء ايطالي يميني محافظ) يصف فيه رومانو برودي (زعيم ديمقراطي مسيحي) بالشيوعي! لقد عشنا كل شيء. هذا هو الخوف من الأحمر  المتخيل، الذي يستخدم كحجة سياسية للفوز في الانتخابات قصيرة الأجل. وهذا أمر لا مفرّ منه! يمكنك الرقص بشكل مقلوب، لكن إذا لم تتم مهاجمتك بهذه الطريقة، فهذا يعني أنك لست مشغولاً بمساءلة النظام. إن جميع قادة الإضرابات والحركات الاجتماعية يتعرضون للإهانة والرسوم الكاريكاتورية في أوقات معينة.

 الموقع: هناك شبح يجوب الصحافة البلجيكية؟

  اعتقد ان هناك تعبيرا عن الخوف من حزب العمل البلجيكي يتجاوز رسوم الكاريكتير المعتادة. ونرى ذلك عندما نقرأ بيانات رجال الأعمال. لقد قال كبير رجال الأعمال في ولاية والون: إن هناك ضرورة قصوى، في عدم السماح لحزب العمل البلجيكي في الحكم، أو التأثير على القرارات السياسية. ومنذ بعض الوقت، نشعر بأن هذه الظاهرة، التي تستخدم اصلا في الصراعات السياسية، تحولت الى خوف حقيقي، لأن حزب العمل في صعود. ويمكن ان يؤثر على الأحزاب السياسية الأخرى. ويتجسد رد فعل رجال الأعمال في المطالبة باعتبار حزب العمل البلجيكي حزبا لا يمكن التعامل معه. كيف يمكنك تجنب ما يميزك؟ يجب البدء بالدفاع عن افكارك، وشرحها، واستخدام جميع وسائل التواصل للقيام بذلك، ولكن ليس بالاعتماد فقط على مصادر المعلومات التقليدية. عندما تهاجم بهذه الطريقة، فلديك خياران: إما تغيير رسالتك، او المواجهة.

أعتقد أن هناك، إلى حد ما، أزمة سياسية عميقة، وحملة معادية للشيوعية أو معادية للون الأحمر، وقد كانت قبل 20 عاما اسهل بكثير مما هي عليه اليوم. ان هناك عدم ثقة عميقة من الناس البسطاء تجاه وسائل الاعلام السائدة. لقد كان واضح خلال استفتاء 2005 في فرنسا (المقصود التصويت على معاهدة الدستور الأوربي، الذي رفضه الفرنسيون). لم يكن التأثير السياسي - الإعلامي كافياً لفرض رؤية المؤسسة السائدة. ولذا، عندما نتحدث عن بناء مجتمع مضاد، يتضمن ذلك أيضا وجود شبكة من المعلومات وفرص المناقشة. وأنا الآن أكثر تفاؤلاً من الماضي عندما أرى تطور وسائل إعلام بديلة وتقنيات جديدة.

عندما تقوم بشيطنة الآخرين، لا يعني ذلك بالضرورة، خيال مآته، وربما يؤدي ذلك الى العكس تماما، ويبدأ الناس الاهتمام. انها ظاهرة خطيرة، لأن هناك من يجب أن نفرض التراجع عليهم، وأعني، على سبيل المثال، اليمين المتطرف.

 الموقع: هذا هو الجدل حول شيطنة "الجبهة القومية الفرنسية" (يمين متطرف)؟

 بالضبط، ولكن لا يمكنك شيطنة اليمين المتطرف من ناحية، وتدافع عن سياسة التقشف الأوروبية من جهة أخرى. عندما يقولون ان اليمين المتطرف والعنصرية سيئان، لكن البديل المقترح ماكرون (وهو ما حصل بالفعل لاحقا – المحرر)، عند ذاك تقوي اليمين المتطرف، ولا تحل ولا مشكلة واحدة. ان هذه هي القضية الأكثر أهمية على المستوى الأوروبي: إما أن يستمر نهج سياسة ماكرون - ميركل واصحابهما، ويصبح الاتحاد الأوروبي أكثر تقشفا واستبدادا، أو هناك تراجع إلى القومية، او ينهض خيار مناهض للرأسمالية. ان هذا سباق مع الزمن. وهذا هو التحدي الذي نطرحه بتواضع في بلجيكا ولكنه التحدي القائم في جميع انحاء اوربا.

 * نشر الحوار في العدد  397 / 2018 من مجلة الثقافة الجديدة