فراس زوين*
ان الكثير من القنوات الاعلامية الداخلية وحتى الاعلام الدولي في الفترة السابقة سلط الاضواء باتجاه سد اليسو وما يشكله من خطر على مناسيب مياه دجلة في الوقت ان هذا السد هو جزء من مجموعة سدود على حوضي دجلة والفرات، وان اي دراسة لهذا الخطر يجب ان تشمل كل جوانب الموضوع ولا تكتفي بجزء منه لوضع حلول جدية تتناسب وحجم الخطر الذي يتربص بالبلد.
يرى الاتراك ان بلدهم من الدول الغنية بالموارد المائية، ووفقاً الى الخارطة المائية لبلادهم نجد عشرات الانهار ما بين كبيره ومتوسطة وصغيرة تروي الاراضي التركية، لهذا ادركت الحكومة التركية خلال 100 سنة الاخيرة ان مستقبل تركيا يقوم على تنمية دور المياه السياسي في الشرق الاوسط، لذا عمدت الى سلسلة من المشاريع المائية على حوضي دجلة والفرات كان اخرها سد اليسو الذي باشرت الحكومة التركية بملئه في مطلع شهر حزيران الجاري.
لقد سعت تركيا الى السيطرة على نهري دجله والفرات والبحث من خلالهما عن دور اقليمي يحقق قدرا كبيرا من الهيمنة مستقبلا من خلال استخدام المياه كقاعدة ضغط سياسي، وكان ذلك عن طريق خطة مشاريع الري وانتاج الطاقة على دجلة والفرات، والذي عرف بمشروع جنوب شرق الاناضول والمتكون من 22 سدا و19 محطة لتوليد الطاقة منها 14 سدا على نهر الفرات اهمها سد اتاتورك، و8 سدود على نهر دجلة اهمها سد اليسو.
ان ازمة المياه في العراق لها امتداد تاريخي ترجع جذورها الى سبعينيات القرن الماضي حيث بدأت تركيا العمل بمشروع ( GAP )والذي اعتبرته الحكومة التركية برنامجا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية لتطوير قطاعات الري والطاقة والزراعة، وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي ويغطي منطقة المشروع 9 محافظات تركية ويمتد الى مساحه تقدر بـ 300000 ميل مربع على حوض دجلة والفرات.
ان الأهمية الاقتصادية لهذا المشروع بالنسبة للأتراك تتمثل في انه سيضاعف الانتاج الزراعي ويوفر 27 مليون كيلواط / ساعة من الكهرباء سنويا ويزيد من دخل الفرد في المنطقة بنسبة200في المائة، كما انه من المتوقع ان يضاعف الانتاج المحلي الزراعي والحيواني بنسبة اربعة اضعاف ويوفر فرص عمل لمليوني شخص تقريبا.
ان السياسة التركية الحديثة ادركت الأهمية الكبرى للجانب الاقتصادي في التعاملات الدولية وامكانية استثماره في رسم استراتيجياتها بالمنطقة، وعمدت الى تسخير ورقة المياه في هذا الوقت الحرج بالنسبة للمنطقة بالضرب في اتجاهين رئيسيين، فانه من جهة يعمل على تدعيم الاقتصاديات التركية من خلال خلق بيئة عمل عملاقة تمكنها من رفع حجم الانتاج الزراعي، بالإضافة الى دورها في تدعيم واقع الانتاج الحيواني وبما يمكن استثمارها لمعالجة نسبة كبيرة من البطالة داخل المجتمع ليشكل عاملا للاستقرار في منطقة مهمة من الاراضي التركية شهدت اضطرابات ولعقود من الزمن، ومن جانب اخر فان النقص الحاصل في المياه يمكن ان يعمل وبقسوة على تدمير الواقع الزراعي والصناعي والحيواني ويخلف اثارا كارثية قد يكون لها اثر سلبي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي للعراق وسوريا لكون النقص الحاصل في المياه سيعمل على تلف الاف الدونمات من الاراضي الزراعية التي من المفروض ان ترفد المجتمع العرافي باحتياجاته من المنتجات الزراعية والحيوانية.
لقد اعلنت تركيا في عام 2008 عن خطط مستقبلية لرسم السياسة الغذائية في منطقه الشرق الاوسط تحت اسم مركز سلة غذاء الشرق الاوسط والذي من خلاله تقوم بتصدير الأغذية وبقيمة عشرات المليارات من الدولارات الى دول المنطقة، بالإضافة الى زياده الانتاج الحيواني من خلال تأسيس مركز انتاج وتصدير اللحوم ومنتجات الالبان وان العمل على هذه المشاريع التنموية التركية لا يمر الا من خلال سلسله السدود والخزانات المائية التي ترفد الزراعة التركية بكل ما تحتاجه من مياه لإرواء اراضيها وادامة زراعتها.
ويكمن الخطر الحقيقي لهذا المشروع في انه يحرم العراق من حقوقه الطبيعية من المياه والتي وهبها الله له، فان العراق وعلى مر التاريخ كان يحصل على ما يقارب 30 مليار متر مكعب من مياه الفرات، وقرابة 20 مليار متر مكعب من نهر دجلة، مضافا اليها مياه الروافد التي تصب في نهر دجلة داخل العراق، ليصل الى ما يقارب 40 مليار متر مكعب، تروى به الاراضي الزراعية في العراق طوال تاريخ ممتد لأكثر من 7000سنة.
وفي الوقت الحاضر تراجعت مناسيب المياه بحيث وصلت الى ما يقارب 10 مليارات متر مكعب لنهر دجله، و12 مليار متر مكعب لنهر الفرات، ويمكن للقارئ الكريم ان يتخيل حجم الكارثة التي تهدد العراق عند النظر الى هذه الارقام.
ان الواقع المائي الذي افرزه البدء بملء سد اليسو في مطلع شهر حزيران الجاري يفرض على الحكومة القادمة البحث الجاد عن إجراءات سياسية واقتصادية رادعة لاستعادة ماهو حق طبيعي من مياه دجلة والفرات على حد سواء ، والتلويح بالورقة الاقتصادية حيث يعتبر العراق المورد النفطي الأول للاتراك اذ يزودهم ب ٣٠في المائة‏ من احتياجاتهم النفطية، كما انه يعد الشريك التجاري الثالث لتركيا بعد المانيا والمملكة المتحدة اذ بلغ حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا من ١٠-١٥ مليار دولار سنويا ، كما ان قيمة التبادلات التجارية تجاوزت ٣٠ مليار دولار في عام ٢٠١٧ بحسب البيانات الصادرة عن مجلس المصدرين التركي، وان التلويح الجاد بخسارة هذه الامتيازات الاقتصادية لصالح دول أخرى بالإضافة الى التهديد باستثمار أوراق أخرى تتعلق بالنسيج الاجتماعي والتوافق الداخلي التركي قد يجبر الاتراك على ابداء مرونة كبيرة وتقديم تنازلات تتناسب وحجم التبادل التجاري الضخم يصب في صالح الموقف العراقي المطالب بحقه.
ان الخطر الذي يتربص في العراق يمكن ان يتجاوز التهديد الاقتصادي الى خطر اجتماعي وسياسي والذي يتلخص بمضاعفة الجنبة الاستيرادية للمنتج الزراعي والحيواني بعد نضوب الارض وعزوفها عن الانتاج، كردة فعل حتمية لشحة المياه الامر الذي يدفع الى الاعتماد الكلي على الجانب التركي تحديدا في سد هذا الفراغ الحاصل، الامر الذي يجعل الاقتصاد العراقي تحت رحمة الابواب التركية التي ان اغلقت بوجهنا فأننا قد لا نملك سوى ابداء التنازلات على حساب النفط العراقي الذي اصبح الحديث عن مقايضته بالماء يظهر علنا حيث صرح دورسن يلدز مدير منظمة هايدروبولتيك التركية (Hydropolitic Academy Turkeys) في لقاء معه ان النفط هو احد الموارد الطبيعية الأساسية وان الموردين الطبيعيين الأساسيين هما المياه والطاقة ويمكن ان يسهما في تطوير التفاعل بين العراق وتركيا ومنحه بعدا جديدا، فلم يبق سوى ان نفرط بنفطنا بعد ان استنزفنا ما تحت ايدينا من عملة صعبة لملء بطوننا.
ان النتائج السلبية لمشروع جنوب شرق الاناضول على الواقع العراقي عديدة ولايمكن اختزالها بهذه السطور بل انها قد تحتاج الى دراسات وندوات وعلى اعلى المستويات لأنها تؤثر سلبا على كل مفاصل الدولة العراقية والمجتمع العراقي، ولكن سأوجز بعض النقاط التي تمثل جزءا من الافرازات السلبية لهذا المشروع.
• انحسار الاراضي الزراعية في العراق وخسارة الملايين من الدونمات بسبب الجفاف من جهة وارتفاع نسبه الملوحة في التربة من الجهة الثانية.
• زياده معدلات البطالة بين العمالة العراقية نتيجة توقف الزراعة وبما يشكل من عبء اضافي على الاقتصاد العراقي الذي يعاني اصلا من ارتفاع نسبه البطالة الى ما فوق 30 في المائة وحسب الاحصاءات الرسمية.
• انخفاض مستويات المياه الصالحة للشرب بسبب ارتفاع مستوى الملوحة في المياه في جنوب العراق نتيجة انخفاض واردات نهر دجله والفرات في الفترات الأخيرة.
• ازدياد معدلات التصحر وارتفاع المعدلات العامة لدرجات الحرارة بسبب انخفاض مساحة المسطح المائي في البلاد وبدرجة تشكل خطرا على الاهوار في العراق.
• التأثير السلبي على الثروة الحيوانية والتراجع الحاد في الثروة السمكية بسبب ارتفاع ملوحة المياه.
• الاثار الاجتماعية السلبية وزيادة الخصومات العشائرية بسبب الاختلاف على نسبة توزيع المياه بين المزارعين في المناطق الجنوبية خصوصا والتي تيعتبر الاكثر تضررا من شحة المياه.
ان الحلول السريعة والمباشرة اصبحت ضرورة ملحة تفرض نفسها وبصورة لا يمكن التغاضي عنها، ولا يمكن للحكومة القادمة مهما كان شكلها وتوجهاتها الفكرية والايدلوجية ان تصرف النظر عنها او تؤجل التعاطي معها لما تمثله من خطر على العراق، ومن كل الجوانب الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والصناعية.
ان للعراق فسحة من الحلول والبدائل التي يمكن ان تخرجه من ازمته التي تهدد الامن المائي للبلد كله لكن ما لايملكه هو عامل الوقت، لذا فأن عليه الاسراع بجملة من الامور منها:
1. الاستفادة من مياه شط العرب واقامة محطات تحلية المياه وإيقاف هدر ما بقى من مناسيب دجلة والفرات.
2. ايجاد بدائل من المياه الجوفية للإرواء الزراعي واتباع وسائل الري الحديثة وهجر الاساليب القديمة والموروثة منذ الاف السنين.
3. العمل على انشاء خزانات استراتيجية للمياه يمكن الاستفادة منها في اوقات الوفرة المائية.
٤.الضغط على الجانب التركي لاطلاق مناسيب مياه دجلة والفرات والاستفادة من الواقع التجاري باعتبار ان العراق الشريك التجاري الثالث لتركيا.
٥. تطوير البنى التحتية العراقية من خلال العمل على تأسيس شبكات تصريف مياه الامطار والاستفادة منها في تعزيز الخزين المائي للانهار بالإضافة الى دوره في العملية الاروائية.
٦. تكثيف العمل الدبلوماسي لتوقيع اتفاقية بين العراق وتركيا وبأشراف اممي تبين مفهوم نهري دجلة والفرات مابين مياه متشاطئة او انهار عابرة للحدود (كما يعتبرها الاتراك) وفق التعريف الدولي، وتحديد حصة العراق من المياه الإقليمية وضمان حقوق الاجيال القادمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث اقتصادي