رشيد غويلب
الناس الساعون الى التغيير يتمسكون بالاحتجاج اسلوبا وثقافةً ليدافعوا عن مكتسباتهم الاجتماعية، في مواجهة سياسة هدم المكتسبات الاجتماعية التي تمارسها حكومات الليبرالية في المراكز الرأسمالية، او حكومات الفساد والاستبداد في دول الأطراف الفاشلة.
وغالبا ما تواجه الحركة الاحتجاجية، وقوى التغيير الحقيقية، خطر احتواء تيارات اليمين الشعبوية للحركة الاحتجاجية، عبر نشر الوعي الزائف، واعتماد العنف والتخويف لفرض اجندات تتعارض مع مصالح الاكثرية، ومع الاهداف الحقيقية التي انطلقت من اجلها الاحتجاجات.
وجاءت المواجهات التي صاحبت احتجاجات «السترات الصفراء» في باريس، واساليب العنف التي رافقتها، لتطرح هذا السؤال من جديد. وعلى الرغم من مبادرة قوى يسارية مهمة في فرنسا لدعم المضامين الاجتماعية لموجة الاحتجاجات الاخيرة، الا ان ان الكثير من منابر الاعلام اليسارية ظلت بعيدة عن نشر تحليلات سريعة، وتقارير تتبنى الاحتجاجات دون تحفظ، كما عودتنا هذه المنابر طيلة السنوات الاخيرة، التي عاشت فيها فرنسا حركة احتجاجات واسعة ضد "قوانين العمل الجديدة" ومراسيم "الإصلاح" التي اعتمدها الرئيس الاشتراكي، وخلفه الليبرالي الجديد ماكرون.
ويذهب بعض المحللين مدفوعين بروح "ثورية" الى المقارنة بين حدث اليوم، والتظاهرات الطلابية التي عمت فرنسا والمانيا وبدرجة اقل بلدانا اخرى في أيار 1968 ، والتي احتفل هذه السنة بمرور 50 عاما على اندلاعها. وبعيدا عن الرفض والاتفاق مع هذه الآراء، فان احتجاجات الطلبة كانت واضحة المضامين، وعبرت عن توق الى تغيير ثقافي واجتماعي، ولا يمكن تصور الانفتاح الليبرالي الذي عاشته هذه البلدان في العقود الخمسة الاخيرة، دون الحقائق التي فرضتها احتجاجت 1968 .
وفي المقابل فان المخاوف من ان تتمخض احتجاجات "السترات الصفراء" عن تعزيز واتساع صعود اليمين الشعبوي المتطرف، كالذي انتهت اليه احتجاجات «حَمَلة شوكات المزارع» في إيطاليا عام 2013، التي تمخضت عن حركة «خمسة نجوم» الشعبوية التي لم تتورع بعد الانتخابات البرلمانية الاخيرة، عن قيادة تحالف حكومي بمشاركة "رابطة الشمال" الفاشية، التي حذفت مفردة الشمال من اسمها، لتعطي نفسها ثوبا وطنيا، وتستعد لدور سياسي اكبر.
مساران متقاطعان يمكن ان تفضي اليهما الاحتجاجات الحالية، فاما إحراز اهداف اجتماعية وسياسية مهمة على طريق تحقيق تغيير جذري لصالح اكثرية السكان، وتحجيم قوى الليبرالية الجديدة وقوى اليمين المحافظ، وهذا ما تسعى اليه وتأمل به قوى واسعة من اليسار ويسار الوسط، او السقوط في مستنقع سلطة اليمين الشعبوي والنازيين الجدد، الذين يسعون الى تجاوز الاداء السياسي التقليدي، دون ان يتخلوا عن اقتصاد الليبرالية الجديدة.

سياسة المراسيم بديلا عن المؤسسات الديمقراطية

انطلاقا من اليميني المحافظ ساركوزي، مرورا بالاشتراكي هولاند، ووصولا الى مدلل الليبرالية الجديدة ماكرون، تعززرت مركزية قصر الإليزيه عبر سياسات المراسيم، على حساب دور البرلمانات المنتخبة ومؤسسات الدولة الديمقراطية.
وماحدث في عهد الرئيس الاشتراكي هولاند، من استغلال للعطلة الصيفية وتمرير "قانون العمل الجديد" بمرسوم بعيدا عن مناقشته في البرلمان، وهربا من مواجهة الاحتجاجات العمالية الحاشدة التي شهدتها فرنسا في حينه. وتعود جذور هذه الممارسة الى حكومة جورج بومبيدو،الذي مرر في آب 1967 حزمة مراسيم حكومية لغرض تعديل قوانين العمل والضمان الاجتماعي، كانت تتمتع بتأييد برلماني، ولكن التجاوب مع جموح الرأسمال، وعدم قناعته بتضييع الوقت في «النقاشات البرلمانية العقيمة»، و التفاوض مع النقابات العمالية، دفع الرئيس الى استخدام اسوأ ما في الدستور الفرنسي، وتمرير «إصلاحات» بواسطة المراسيم غير القابلة للنقض أو النقاش.
إن خريف باريس الساخن في السنوات الأخيرة، يشبه ايلول 1967 ، الذي اهمله الجنرال ديغول، وتحول بالنتيجة الى احتجاجات ايار 1968 الجارفة. وفي مقابل لا ابالية الجنرال ديغول تجاه اضرابات الطلبة، رأى ماكرون الفائز باغلبية مطلقة في الانتخابات الاخيرة، هو الآخر في مناقشات البرلمان مضيعة للوقت، فلجأ هو ايضا الى سلاح المراسيم لفرض اجندة الليبراليين الجدد، تاركا سلسلة متواصلة من الإضرابات والاحتجاجات النقابية خلف ظهره، وواصفا بصلف اتحاد نقابة «المركزية العامة للعمل CGT» العريق، القريب من الشيوعيين بـ«الإرهابيين»، وعموم الشعب الفرنسي بـ«الكسالى ذوي الطباع المناهضة لأي إصلاح».. إلى أن فوجئ بهدير «السترات الصفراء» يصل إلى أعتاب قصره الرئاسي!
فهل ستفضي موجة الاحتجاجات الى تغيير ايجابي، تجاوبا مع الآمال الواسعة لاغلبية الفرنسيين؟ ام ينتصر منطق الشعبويين، الذي يتبنى لغة التخوين، والمعادي للنقابات والحياة الحزبية السليمة والاعلام النقدي؟ عندها تصح مقولة ماركس الشهيرة المحذّرة من أن التاريخ إذ يكرر نفسه فانه يأتي في المرة الأولى تراجيدياً ليتحوّل في المرة الثانية إلى مهزلة وهذا ما ستكشفه الاسابيع والشهور المقبلة؟