عام 1905 وبالتحديد بين حزيران وتموز من ذلك العام، وبينما احداث ثورة 1905 في روسيا القيصرية تجري متسارعة، كتب لينين مؤلفه الشهير "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" الذي اجرى فيه مقارنة بين برنامج البلاشفة الثوري وبرنامج المناشفة الاصلاحي. كتب يقول :
(ينبغي على البروليتاريا ان تقوم بالانقلاب الديمقراطي الى النهاية بان تضم اليها جماهير الفلاحين لسحق مقاومة الاوتوقراطية بالقوة وشل تذبذب البرجوازية، وينبغي على البروليتاريا ان تقوم بالانقلاب الاشتراكي بان تضم اليها جماهير العناصر نصف البروليتارية من السكان لسحق مقاومة البرجوازية بالقوة، وشل تذبذب الفلاحين والبرجوازية الصغيرة، هكذا ورد النص في احدى ترجمات مختارات لينين. وفي ترجمة اخرى لهذا المؤلف الهام ورد ان " البروليتاريا في الثورة الاشتراكية تتحالف مع فقراء الفلاحين محيدة متوسطيهم، وبالضد من اغنيائهم".
كان ذلك الطرح طرحاً تجريدياً، نظرياً، من خلال العودة الى صراع المتناقضات كما يحددها القانون الاول للديالكتيك، قانون وحدة وصراع الاضداد، حيث يجري تحديد المرحلة والمهام، والقوة المحركة وتشخيص التحالفات السياسية المستندة الى المصالح الطبقية المتضادة، حيث يحدد وبدقة مع من تتحالف، وضد من تقف؟
مع من تتحالف لتحقيق الثورة وضد من تثور؟ وماهي طبيعة الثورة : ديمقراطية ام اشتراكية؟
كانت ثورة 1905 ثورة ديمقراطية وقد فشلت فتبع ذلك ردة رجعية همجية قاسية حيث نكل بالثوار ابشع تنكيل. ولم يمر عقد كامل على فشل الثورة حتى زجت المانيا وحلفاؤها سلاطين ال عثمان البشرية في حرب كونية طاحنة استمرت منذ عام 1914 حتى عام 1918 اذ خسرت المانيا والسلطنة العثمانية تلك الحرب وفرض عليهما الاستسلام للحلفاء حيث تقاسم المنتصرون ممتلكات الدولة العثمانية بالكامل. ومعلوم ان لينين في مؤلفه "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية" اكد ان "تقاسم العالم اقليمياً قد انتهى، ولم يعد امام الدول الاستعمارية الكبرى ووفقاً لقانون التفاوت الاقتصادي بين الدول الراسمالية المتطورة غير اعادة التقاسم وهذه الاعادة للتقاسم لا يمكن ان تتحقق الا عبر الحرب الكونية" روسيا القيصرية التي لم تتحقق فيها اهداف المرحلة الديمقراطية بفشل ثورة عام 1905 عانى شعبها كثيراَ من مآسي الحرب التي زج روسيا فيها القيصر الروسي بهدف الحصول على بعض الاسلاب خصوصاً من القسم الشرقي للقارة الاوربية، والتي لم يحصل منها على أي جزء من تلك الاسلاب، واكثر من هذا فقد خسرت بعض اراضيها التي احتلتها القوات الالمانية الغازية التي وصلت قريباً جداً من العاصمة الروسية التي كانت آنذاك مدينة سانت بطرسبورغ.
ولو عدنا الى مؤلف لينين المعنون "من هم اصدقاء الشعب وكيف يحارب الاشتراكيون الديمقراطيون" نجد ان لينين وباحصائيات وجداول عديدة يؤكد ان الرأسمالية قد دخلت روسيا الا انها بالقياس الى الدول الرأسمالية الاخرى كانت آنذاك تشكل الحلقة الاضعف، وهذا يعني انها كانت المرشحة لقيام الثورة الاشتراكية فيها وفقا لاستنتاجه الهام الذي طرحه في مؤلفه المعروف "الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية " والذي يؤكد على امكانية قيام الثورة الاشتراكية في بلد راسمالي واحد – أضعف الحلقات – وليس كما طرح ماركس من انها عندما تقوم لتنتصر ينبغي ان تقوم في عدد من البلدان الرأسمالية المتطورة وفي ان واحد. ولم يكن لينين في ذلك الموقف غير التلميذ الامين لماركس وانجلز اللذين كانا دائماً يؤكدان على التعامل مع الماركسية على انها "مرشد للعمل وليست رافعاً هيكلياً" وان مهمة الجميع تطويرها وتدقيقها وتشذيبها، والتخلي عما يشيخ منها والذي تخطته الحياة ولم تزكيه ابداً.
وقد ضربا اسطع مثال على وجهة نظرهما تلك عندما اكدا بخصوص البيان الشيوعي الاول من انه "شاخ في بعض مواقعه". ومن يريد ان يرى كيف كان انجلز يكره النصية والجمود العقائدي انصح بالعودة الى المقدمة التي كتبها بنفسه لمؤلفه المعروف "الهر دوهر ينغ يقلب العلم" ولير باي وصف بعض الافكار التي وردت فيه. "خرقاء" او ليعد الى مقدمة الطبعة الانكليزية لمؤلف كارل ماركس" الرأسمال" اذ يؤكد انه اجرى تعديلات اقتضتها الضرورة على ما كتبه ماركس والتي كما قال انجلز لوكان ماركس حياً لاجراها بنفسه. وعلى اساس استنتاج لينين ذاك أي ان تقاسم العالم اقليمياً قد انتهى وان البشرية تقترب من حرب كونية لاعادة التقاسم ساهم كممثل للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في قيادة الاممية الثانية الى ان تتخذ الاممية قراراً يدعو بروليتاريا البلدان المختلفة لاعلان الثورة كل في بلده لاسقاط البرجوازيات الحاكمة وتخطي الرأسمالية. وقد كان التأريخ شاهداً على ان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي هو الوحيد الذي قاد بروليتاريا بلده من اجل اسقاط الحكومة في روسيا واستلام السلطة اما الاخرون فقد تخلوا عن قرار الاممية القاضي بالاسقاط واصدروا بياناً سمحوا فيه لعمال العالم ان يتقاتلوا فيما بينهم تحت شعار ( الدفاع عن الوطن ) وهذا الامر اوضحه لينين في مؤلفه المعروف "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي".
شباط 1917 – اذار وفقاً للتقويم الميلادي – وتحت ضغط ظروف الحرب الكونية هب الشعب الروسي في العاصمة الروسية سانت بطرسبورج في انتفاضة عاصفة أطاحت خلال ثلاثة ايام فقط بسلطة القياصرة الروس وشكلت حكومة مؤقتة بقرار من رئيس مجلس الشيوخ وفقاً لصلاحياته الدستورية، وبدأت في كافة ارجاء روسيا حركة تشكيل مجالس السوفييتات
وظهرت الى الوجود ازدواجية السلطة : سلطة الحكومة المؤقتة التي مثلت البرجوازية من خلال كون اعضائها كانوا من حزب (الكاديت) وسلطة السوفييتات. وكذلك الثانية التي ترأسها كرنسكي مثلما أبقت على ملكية النبلاء الروس للأرض أصرت على مواصلة الحرب في تحد صارخ للشعب الذي كان يريد الانسحاب منها فاصبحت هناك ضرورة لاسقاطها – الحكومة المؤقتة – وانهاء ازدواجية السلطة وبذلك فرض منطق الحياة الموضوعي – ديالكتيكها الموضوعي – نفسه على الثوار على الشعب كله واسقطت الحكومة المؤقتة وشكل بديلاً عنها وفقاً لمنطق الثورة حكومة جديدة ترأسها لينين بنفسه ليلة 6 / 7 من تشرين الثاني عام 1917. وبذلك رحلت سلطة البرجوازية الروسية وهي لم تحقق شيئاً من مهام الثورة الديمقراطية التي رحلت الى السلطة الجديدة سلطة البروليتاريا الروسية وحلفائها الفلاحين التي وجدت نفسها منذ اليوم الاول لتشكيلها امام التداخل المعقد بين مهام الثورة الديمقراطية ومهام الثورة الاشتراكية.
لينين تحدث عن ثورة اكتوبر المجيدة مرات عديدة:
1. في مؤلفه "مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية" تحدث عن الاهمية العالمية لثورة اكتوبر سواء كان بالمعنى الضيق للكلمة (او بالمعنى الواسع لها) وعرى الجمود العقائدي والنصية.
2. وفي تقريره المعنون "موضوعات في المسألة الزراعية" الذي قدمه الى المؤتمر الثاني للكومنترن تطرق بالتفصيل الى القوى الطبقية التي شاركت في ثورة اكتوبر المجيدة وخصوصاً مراتب الفلاحين الثلاث. واكد وفي تخط منه لما طرحه في مؤلفه "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" من ان البروليتاريا في الثورة الاشتراكية تتحالف مع الفلاحين الفقراء وبالضد من الفلاحين الاغنياء بتحييد الفلاحين المتوسطين وباستيعاب رائع منه لديالكتيك تطور المجتمع، ديالكتيك الحياة الموضوعي الذي يتطابق احياناً، او يقترب ان لم يتطابق، مع رغبات البشر وامانيهم وبالضد منها في احيان اخرى، اكد اشتراك كافة مراتب الفلاحين في الثورة وعلق على ذلك قائلا "وبهذا المعنى فان ثورة اكتوبر كانت ثورة برجوازية ولم تكتسب طابعها الاشتراكي الا بعد ان شكلنا لجان الفلاحين الفقراء ".
3. بعد سنتين من اشتعال نيران حرب التدخل وتمرد دينيكين وكولتشاك والقضاء عليهما قضاءاً تاماً طرح لينين مقترح الاستعاضة عن شيوعية الحرب، والتي كان احد حيثياتها مصادرة ما فاض عن حاجة العوائل الفلاحية من المنتجات الزراعية لتوفير الخبز للمواطنين السوفيات بالضريبة العينية. وقد تحدث لينين مرات عديدة عن التراجع عن شيوعية الحرب والتحول الى اخذ الضريبة العينية فقط وتوفير الفرصة للفلاحين للمتاجرة بالفائض من منتجاتهم الزراعية وفي احاديثه تلك اكد على جوانب عديدة :
- عندما لم يعد هناك حافز للفلاحين قل انتاجهم اما بعد اللجوء الى الضريبة العينية فقد اخذت السلطة السوفياتية تتسلم من منتجات الفلاحين الزراعية (ما يزيد بعدة مرات على ما كانت تستلم ايام المصادرة للمنتجات).
- وفي احد خطاباته قال "لقد اخطأنا ايها الرفاق عندما طبقنا الاشتراكية وما إجراءاتنا الحالية أي السماح للفلاحين بالمتاجرة بالمنتجات الزراعية ودعوة الرأسمال الدولي للدخول الى الساحة الاقتصادية السوفياتية كمستثمر، وفقاً لسياسة النيب سوى عودة للرأسمالية " وبحزن قال مخاطباً اجتماعاً لكوادر حزبية سوفياتية "لقد هزمنا ايها الرفاق".
فهل فهم رجال الجمود العقائدي اقوال لينين وتأكيداته تلك؟
أتذكر انني عندما حضرت في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو عام 1975 محاضرة عن المسألة الزراعية لاحد الاساتذة المتخصصين بالمسألة الزراعية ان الاستاذ تجاهل تماماً ما ذكره لينين عن اشتراك كافة مراتب الفلاحين في ثورة اكتوبر المجيدة واستند الى ما ورد عنهم في مؤلف "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" ليخطئ ما ورد في مؤلف صادر سبعينيات القرن الماضي عن اكاديمية العلوم السوفياتية من تأكيد على اشتراك الفلاحين الأغنياء في الثورة.
على كل حال من الصعوبة بمكان فهم الفارق بين الديالكتيك الذاتي والديالكتيك الموضوعي وان الحياة وتطور المجتمع يبقيان من حيث التفاصيل اوسع بكثير من فهمنا لهما ويبقى فهمنا لحركة الحياة وتطور المجتمع نسبياً وتبقى حركتهما هي المطلق.
ولم يكتف لينين بكل هذه الامور الهامة التي طرحها، بل تناول بالحديث ايضاً موضوعة ديكتاتورية البروليتاريا. اذ قيمها تقييماً نابعاً من الواقع العملي الذي فرضته ثورة اكتوبر والديالكتيك الموضوعي لتطور المجتمع.
لينين الذي كتب عن تطورات الاحداث عام 1905 يقول" مع البرجوازية الديمقراطية الثورية في الانقلاب الجمهوري لا تستعظموا اخطار هذا الاشتراك الذي يمكن كلياً لبرولتياريانا المنظمة ان تقوم به. ان اشهراً من ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية ستفعل اكثر من عقود من السنين من الجو السلمي، المخبل، جو الركود السياسي واذا كانت الطبقة العاملة الروسية قد استطاعت بعد 9 كانون الثاني في ظروف العبودية السياسية ان تحشد اكثر من مليون برولتياري لاجل النضال الجماعي والحازم والثابت، فاننا سنحشد في ظل الدكتاتورية الديمقراطية الثورية عشرات الملايين من فقراء المدينة والريف وسنجعل من الثورة الروسية مقدمة للانقلاب الاشتراكي الأوربي".
لينين الذي قال كل هذا، وهو التلميذ الواعي لكارل ماركس، تحدث عن دكتاتورية البروليتاريا بعد ثورة اكتوبر المجيدة قائلاً "انها دكتاتورية اقلية " وأوضح رأيه أمام المندوبين الذين استمعوا الى رأيه الواضح والذي لا لبس فيه.
ماذا قال لينين ؟
"ان تعداد الشعب السوفياتي كذا مليون "
"تعداد الطبقة العاملة الروسية كذا "– اقل طبعاً -
"تعداد الحزب كذا – بعد اقل، بينما تعداد اللجنة المركزية خمسة عشر رفيقاً فقط"
وان كافة القرارات انما تصدر عن اللجنة المركزية ولا يمكن ان ينجز أي قرار يصدر من الدوائر الحكومية دون ان يمر باللجنة المركزية. واضاف من اجل تجاوز هذا الاشكال :
" اخذنا نوسع من صلاحيات مجالس السوفيتيات ".
ومعلوم ان لينين يوم سئل عن الاشتراكية لم يقل انها دكتاتورية البروتياريا - الكهرباء بل قال: "مجالس السوفييتات + الكهرباء". لينين الذي تحدث بهذه الصيغ عن ثورة اكتوبر وسلطة الثورة، لم ينس ابداً الاشارة الى ان تلك التراجعات هي وقتية وان مستقبل الانتقال الى الاشتراكية محسوم فلذلك الانتقال ممهداته الهامة وهي الملكية العامة لوسائل الانتاج في المدينة وان رأسمالية الدولة التي تركز عليها سياسة النيب تقاد من قبل سلطة الطبقة العاملة وقائدها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي – البلاشفة – الذي تغير اسمه الى الحزب الشيوعي بعد تشكيل الاممية الثالثة – الاممية الشيوعية – الكومنترن -.
المجد والخلود لثورة اكتوبر المجيدة.

عرض مقالات: