في نومها تفرد، فهي تنام مقلوبة على ظهرها، ساكنة بلا ضجيج ـ الضجيج الذي كانت تطلقه حولها وهي تكاد تسير بين الناس على قدمين برونزيتين. وجه التمثال النصفي للزعيم يطالع السماء بذات النظرة التي كان فيها يحتل وقوفا دكةً محاطة بأربعة نسور عملاقة، يتساءل الطفل الواقف قرب التمثال النصفي النائم على الارض ـ هل هي ذات النظرة التي كان يراها وهو يمر يوميا قرب التمثال في طريقه الى المدرسة؟
ربما اختفت الابتسامة الساخرة كذلك عين الصقر. عزاها الطفل الواقف والذي يضع يديه على خصره، ضاما تلك اليدين الرقيقتين الى جسده بقوة، كأنه يريد أن يفرغ دهشة تلك اللحظة، نظرته مصوبة تماما الى الوجه، ربما هو يبحث عن الابتسامة الساخرة المنطلقة من الشفتين الغليظتين! ينظر طويلاً الى الجيب العملاق الذي دُسَ فيه رباط العسكرية الذي يمر من اعلى الكتف حيث يمر منه تحت قطعة القماش المحفورة بالنجوم والرتب العسكرية، ربما هو يطالع الرتبة ويفكر "هل يفعل ذات الشيء الذي كان يفعله الرئيس؟ من يحمل على كتفه النجوم والدوائر والعلامات العسكرية"؟ تمادى كثيرا في حلمه "هل أفعل ذات الشيء اذا ما حملت هذه الياقة على كتفي يوماً؟ هل سأقيم تمثالا عملاقا يسقطه الناس ويتحول الى هذه الكتلة الصنمية الملقاة على الارض مقلوبة ومستسلمة وبرتبة عسكرية عملاقة"؟ الكتفان يستقران على رصيف صغير فيما الرأس هبط ولم تتمكن "البيرية العسكرية" المنحوتة على الرأس العملاق من رفعه ليكون بمستوى الجسد.
جلس الصبي الآخر لا يعرف بماذا يفكر.. يتابع الصور في مخيلته، صور صاحب التمثال النصفي المحطم والنائم مقلوبا على الرصيف، يمر الشريط في رأسه على هيئة شاشة يطل منها الرئيس بنظارات طبية كبيرة وهو يكاد يجهش بالبكاء.. يردد ذات الجمل التي كاد هو أن يحفظها عن ظهر قلب، ينتهي الخطاب وتبدأ الانشودة التي ترافقها عشرات الاشرطة التلفزيونية التي تظهره في اماكن عديدة، مرة يجلس بخشوع يصلي قرب ضريح أحد الائمة، ومرة وهو يقف على صندوق سيارة ويده لا تكف عن التلويح للجموع التي تحيطه.. يلوح وهو يبتسم ابتسامات مرتعشة، وربما كان يلقي بنظرة سريعة نحو السماء الضاجة بهدير الطائرات المعادية المغيرة على بلد لا يملك أي حيلة ولا قوة للتصدي لها سوى الوجه العملاق والذي يظهر على الشاشة ـ بعد كل انفجار ـ مرتديا نظارة طبية كبيرة وهو يطلق خواراً.. ينهيه بكلمات حفظها الناس والتي تنتهي بالانشودة التي تظهره وهو على ظهر سيارة او يجلس بخشوع يصلي في ضريح احد الائمة.. وتظهر خلف الصبيين القاعدة العملاقة للتمثال النصفي العملاق لرئيس عملاق محاط بأربعة دعامات على هيئة نسور عملاقه تحيط بالقاعدة والتمثال.. يدير الصبيان ظهريهما للنسور ويمضيان في التطلع بالتمثال النصفي المقلوب وهما يستحضران اطياف قديمة وصور جديدة، ومن بعيد يتصاعد غبار جديد يتطلعان اليه حيث كان تمثال آخر للرئيس يسقط على الارض وهو يحدث زوبعة من الضجيج وعاصفة من التراب.

عرض مقالات: