مجموعة قصصية للقاص عباس الحداد تضمنت سبعة وعشرين عنوانا لقصص قصيرة معظم موضوعاتها اعتمدت على استرجاع الأحداث مستدعية الماضي بامتداداته المختلفة  ليشكل "زمان القصص" مع اختلاف الأمكنة على أن المدينة احتلت المقام الأول بالنسبة للأمكنة، وكأن القاص يريد القول إن بيئته ومحيطه كانت الممول لاستدعاء الشخصيات، وعلى هذا فان التصنيف الطبيعي لهذا النوع من السرد القصصي  يستهدف البنية الاجتماعية بكل ما يحيط بها  مؤكدا القاص على ذاكرة المدينة التي له درايته، دراية تامة وقد تكون معاشة بالأحداث، على أن نهايات معظم القصص بنيت على الواقع مبتعدة عن الايغال كثيرا بالخيال.

القاص عباس الحداد استطاع محاكاة الماضي وتوظيفه بما يجعل القصة الواحدة عالما قائما بذاته تتوفر فيه كل أركان القصة القصيرة وكأن المعلومات الاسترجاعية هي من شكل البناء الفوقي للقصة، أما التفصيلات الدقيقة فقد خضعت كما هو واضح لمشيئة القاص، وما يؤيد هذا الزعم شخصية دانيال الصباغ الذي كان بطل قصته الأولى "الراقص على الماء" هذا الراقص شخصية واقعية شكلت جزءا من ذاكرة المدينة في زمن الماضي وأعطت بذات الوقت اضاءات مهمة على التركيبة الاجتماعية ووقع الحياة اليومي وشرح بطريقة محببة العلاقة القائمة آنذاك بين المعلم وتلاميذه من خلال قوله "عصي المدير القاسية"، وهذا ضرب من الإخبار عن سائد أسهم في بناء جيل علمي مهم من خلال تطبيق مبدأ العقاب والثواب وهنا توظيف التاريخ للإخبار عن سلوك يحكم علاقة المعلم بالمتعلم.

ان من شروط القصة القصيرة التكثيف الحدثي مع التماسك البنائي للجمل بحيث خلا البناء اللغوي مما يصطلح عليه بالفائض السردي أو اللغوي الذي غالبا ما يصيب السرد بالوهن وكذلك الشعر، وكأن القاص قد قدر المفردات بما  يحقق الحبكة التي تشكل ركنا من أركان الحكي القصصي.

ومن المفيد أن نذكر أن القصة الأولى في المجموعة "الراقص على الماء"  قد أدت ضربين أولهما اجتماعي والآخر سياسي. يصح لنا أن نصنف الحدث تحت مسمى "السخرية السوداء" التي تضرب تحت الحزام وتحافظ بذات الوقت على تأثيرها في ذهنية المتلقي مع تركيز على البعد التاريخي لتلك الأحداث، فمرة نجد الجمل قد أخذت الطابع الإخباري "الحكائي" وعملية الإخبار هذه تعاقبت بإيقاع تاريخي منتظم، ومرة نلحظ الجمل الساخرة التي أفضت على التاريخي مسحة ساخرة وشكلت رفضا لما يجري من خلال مجريات الحدث الخاص بـ "دانيال"، ومن السخرية ينطلق القاص في بعض الأحيان لظواهر اجتماسياسية تطفو على السطح غايته رفضها بطريقة ابعد قليلا عن المباشرة. 

  الحقيقة أن بعض الباحثين يرى أنّ القصّة مرتبطة بغرائز الإنسان منذ نشوئه، ولهذا كان لها التأثير القويّ عليه.  ففي المجتمعات التي يتولّى فيها شخص أو أشخاص رواية الخبر بما يستهوي السامعين، فإن ذلك الشخص "الراوي" يحصل على تميّز ذاتي مرتبط بقدرته على القصّ وتفرده بأسلوب يميزه عن تراتبية الاحداث التاريخية.

وفي مجموعة القاص عباس الحداد هذه تحققت تلك الوشيجة بين القاص والمتلقي باعتبار أن الحدث هو جزء من الحياة العامة لمجموع المتلقين وإذا كانت فيه من رؤية خيالية فهي بحدود معينة استمدها القاص من الواقع من خلال تلاعبه بسير الأحداث مما أعطى للمتلقي  فرصة الاستمتاع بمتابعة تطورات الحدث.

 ولو طرحنا تساؤلا مشروعا ونحن نتابع "وللخوف بقية": هل القص موهبة أم أن القاص مؤرخ وحسب يدون الأحداث كما يراها بحرفية المدون؟

 وللإجابة على هذا التساؤل نقول: القص موهبة صقلها الاطلاع على تجارب عديدة وحكمتها قدرة القاص الذاتية وسعة افقه فضلا عن معجمه اللغوي الذي يعطي السرد زخما لغويا جماليا ويشير بوضوح لإمكانات القاص في دقة التوظيف اللغوي أو من خلال التحليق بالقارئ بعيدا عن الواقع في فواصل خيالية حافظت على التلازم والانسجام بين الواقع والخيال.

 على أن هذه القدرة تتمثل في الزيادة أو النقصان في الأحداث، وفي تأجيل بعض الأحداث وتقديم بعضها. وموهبة القصّ ليست مقصورة على طريقة نقل الخبر، بل ربما احتاج الراوي في مرات عديدة إلى الاختلاق لإرضاء سامعيه، فقد يرى الآخرون مثلما رأى؛ لكنه يعيد إليهم ما رأوه وكأنهم لم يعلموا عنه شيئا. وربما سمع منهم تجاربهم فتبنّاها وأعادها وكأنها تجربة جديدة لم يعرفوها. ولا شك أنّ من يُتقن هذا الفن لابد أنّه يملك موهبة وذكاء، فلا ينسى حدثا أو شخصيّة سبق ذكرها، ولا يُظهِر تناقضا ما فيما يرويه للمستمعين.

 ننتقل مع القاص عباس الحداد إلى قصة نابضة بالحياة لأنها تحدث في الأزمان القادمة رغم أنها من الماضي البعيد "الأخت".

 في القصة يتصارع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي في آن واحد وعلى لسان الأخت دون أن يكون أي أثر لشخصية الأخ في السرد إلا أنها كانت حاضرة بقوة لاذت بالصمت على مر الأحداث، إلا أنها كانت فاعلة عاملة تركت انطباعا لدى المتلقي.

 إن طريقة الكاتب في صياغة قصته هي أهم ما يمتلكه من مهارة تجعله يستطيع أن يتعامل مع الشخصيات والأحداث والبيئة بدقّة ويوظف ذلك لخدمة هدفه.

والحقيقة أن "تصميم القصة يختبر نضج ونفاذ بصيرة الكاتب ومعلوماته عن المجتمع والطبيعة، وعن التركيبة المجتمعية" وهذا ما نجح القاص الحداد في تجسيده بذكاء من خلال التعامل مع "الزمكان" الذي شكلت المدينة موئله الأساسي.

إن القصة تتطلب خيالا وفكرا تحليليا قويا. لم يكن التعبير الشخصي أبدا هو القضية، فكل القصص، بدراية أو دون دراية، بحكمة أو دونها، تعكس صانعها، كاشفة عن إنسانيته وتفاعله مع تركيبته الاجتماعية على اختلاف مستوياتها.

ففي الوقت الذي نجد "الأخ" ركن إلى الصمت إلا أن القاص بث كل أفكاره الإنسانية في قائمة التوبيخ الذي استعرضته الأخت حول العلاقات الحميمية بين الأشقاء وانه غادرها نتيجة للتحول الذي طرأ على حياته من خلال مكوثه مدة في السجن الذي تسبب بتغيير تركيبته النفسية مبتعدا عن القيم التي يجب أن تسود بين الأخوة، وهنا إشارات ذكية لبعد سياسي انعكس سلبا على النفسي، فلم تكن شخصية الأخ قبل دخوله السجن بهذا الطمع والجلد وانحلال الرابط.

 والذي يميز هذه المجموعة منهجية السرد الذي اعتمد في معظمه على أفكار الكاتب من خلال مصادرته لادوار شخوص القصة، وحصرها بشخص واحد وكأنه يريد أن يوجه رسائله بشكل مباشر وهو نوع من أنواع القص الهادف لبعث رسائل توعوية إصلاحية ووعظية.

 وثمة أمر هام في هذه المجموعة هو الوصف الدقيق للسجن ومرافقه وكأن القاص قد عاش هذه الأجواء وهذا ما نلحظه من خلال قصة "الصلاة خارج الأوقات الخمسة"، يقول القاص: "الباحة المستطيلة التي تؤدي إلى الزنازين الانفرادية، شبه مظلمة زادتها عتمة البناية الجديدة التي ألحقت بمديرية الأمن عند الجهة الشمالية"، وهذا الوصف الدقيق للمكان لا يمكن أن يكون مبعثه الخيال بل التجربة والاطلاع عن كثب على موقع الأحداث.

ولو ركزنا على جانب آخر مهم في هذه المجموعة على موضوع "البنية السردية"، فقد اعتمد الحداد أسلوبا اخذ بنظر الاعتبار مكونات البنية السردية التي أشبعت بحثا واستقر المقام على أنها تتألف من "المكونات، والوظائف، والزمان والمكان  - فضاء  النص"، فقد نجح القاص الحداد في تطبيق منهج السرد في قصصه مع الأخذ بنظر الاعتبار أن اللغة التي سادت معظم القص هي اللغة اليسيرة المبسطة التي لا تستعصي على المتلقي البسيط وهذا يذكرنا إلى حد بعيد بأسلوب جيل المنفلوطي الذي غاص في أعماق المجتمع ليأتي بالثمين منه، بالضبط هذا ما فعله القاص الحداد في تعقبه ظواهر سادت المجتمع منها ما هو سياسي، ومنها اقتصادي أو اجتماعي، أو نفسي، وهو يعبر عن حرفية القص الذي يلامس وجع الإنسان، مبتعدا تماما عن أساليب تعمية وترميز الأحداث، بما يتعسر على القارئ، الإفادة، واستقاء العبرة. ولا يمكن لي ادعاء قراءة المجموعة من كل الوجوه ففيها عمل كثير من ناحيتي البنية الفنية والسياق العام لان كل قصة قد شكلت عالما خاصا منفصلا عن الآخر.

 وخلاصة القول فان الرسائل المراد إيصالها ،قد تمكن الحداد، وبذكاء القاص التعبير عنها أحيانا وفقا للقواعد المعمول بها، وفي أخرى جسدت أسلوب خاص به في التأثير والتلاعب بقناعات المتلقي وكسبها لصالح فكرة القصة وموضوعها.