مجموعة قصصية أثارت الكثير من اللغط بغلافها الاصفر الذي اضفى التصميم الكثير من الهيبة والجمال عليه. المجموعة صدرت في الفترة الزمنية التي احدثت آثارها الكثيرعلى مسيرة وطن وأوطان اخرى مجاورة.. الآثار الموغلة في العمق وهي تكاد أن تسحب الوطن نحو القاع.. العام الذي وضع الوطن فيه على مفترق حينما بدأ الحصار.. وما سببه من دمامل ما زالت آثارها شاخصة في ذاكرة جيلنا الذي عاش محنة الحصار ومن ثم ما حدث فيه وبعده. هنا أود أن اتوقف عن سرد المجموعة القصصية التي اجابت عما يجب أن يفعله المثقف، هل يقف مكتوف اليد وهو يرى بأم عينه شعبه يجوع وهو يقاد الى دهاليز ومفترقات حروب عبثية.. وهذا ما ترشح بوضوح امامي وانا احضر بالصدفة الاحتفالية التي اقامها الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق على حدائقه في اواسط عام 1993 بمناسبة صدور مجموعة "خريف البلدة" للقاص والروائي أحمد خلف. حينما بدأ عريف الحفل الراحل عبد الجبار داود البصري يتحدث عن مسيرة الكاتب واصداراته وعرج على "خريف البلدة".. بعد أن انتهى من كلمته العمومية.. بدأ المشاركون بمداخلات يقرأون أوراقهم، ثم جاء دور المحتفى به للحديث عن تجربته القصصية والروائية فقال: سوف لن اتحدث عن المجموعة ولكني ساحدثكم عن قصة قرأتها قبل ايام نشرت في احدى الصحف العراقية وكانت بعنوان "الانشاء" احيلكم اليها لقراءتها وبعد أن ننتهي من القراءة سنتحدث حينها عن خريف البلدة.. صمت الجميع بما فيهم المتحدث.. وبعد فترة الصمت قال حسنا ساعرج على ثيمة القصة فقط وهي تتحدث عن "بيدرو الطفل الذي سخر من الفخ الذي نصبته السلطة ـ والحدث يدور في قرية من القرى الثائرة في امريكا الجنوبية ـ والفخ هو طريقة ملعونة لاستدراج الاطفال واستنطاقهم بدهاء ليتحدثوا عن اهلهم وماذا يفعلون لمعرفة العوائل التي تستمع الى اذاعات المعارضة، ترسل السلطة جنرالا يتنكر بهيئة معلم يطلب من الاطفال ان يخرجوا دفاتر الانشاء ويكتبوا موضوعا، ماذا يفعل ابوك وامك عندما تعود الى البيت"؟ وكان أغلب الآباء والامهات بما فيهم اهل "بيدرو" يستمعون الى اذاعات المعارضة طوال الليل عبر اجهزة اللاسلكي ويستمعون الى التوجيهات التي تصلهم من الثوار، يشترط "المعلم" "الدقة وعدم الكذب"... كتب بيدرو بدفتره: بعد أن ننتهي من الاكل ينام ابي في حين امي لا تنام تبقى تنظف البيت وتعد القهوة والفطائر لابي قبل الغروب.. وتهيئ رقعة الشطرنج.. ويبدآن يلعبان الشطرنج ويضحكان وهما يتذوقان الفطائر وقبل منتصف الليل ينامان. يسلم "بيدرو دفتر الانشاء الى المعلم وبعد أن يصحح الجنرال ـ المعلم ـ دفاتر الانشاء يقع بعض الطلاب في الفخ وتبدأ السلطة في اعتقال ذويهم الذين يستغربون من الجاسوس الذي وشى بهم.. في حين يسلم "بيدرو" دفتر الانشاء الى ابيه الذي يقرأه باضطراب.. حينها يقترح الاب على الام أن يشتريا من الليلة رقعة شطرنج وسيبدأ بتعليمها كيف يتم اللعب. بعد أن انتهى احمد خلف من قراءة ثيمة القصة على منصة الاتحاد وبحضور "جماعة السفاري" توقعت أن يتم اعتقاله وهو على المنصة لكني فوجئت بالتصفيق الحار للقاص الذي نزل من المنصة وهو يسير بثقة. هذه الشجاعة ومن على منصة الاتحاد مع امتناع اغلب المداخلين من الحديث عن قصص المجموعة حفزني على اقتنائها في اليوم التالي.. وبعد اطلاعي عليها فهمت لماذا اعتذر اغلبهم للحديث عن المجموعة.. كانت مجموعة مليئة بالألغام التي تبحث عنها السلطة آنذاك، وازداد ذهولي في اجازتها.. ومن الذي غامر ووافق على الاجازة.. كلها اسئلة كبيرة فهمت منها.. أن المثقف يجب أن يمارس دوره اليوم وفي كل يوم.. يتطلب الامر القليل من الشجاعة التي امتلكها احمد خلف وهو يحدثنا عن "درس في الانشاء" الذي لم يكن "درسا في الانشاء" بل "درسا في الشجاعة على قول ما يجب ان يقال...".

عرض مقالات: