لم تعد الأعمال الروائية مجرد سرد تقليدي، أو حكايات تحكى، يحاول فيها كاتبها نقل المشهد كما يفعل المصور الفوتوغرافي، أو القصه خون، بل لا بدّ أن تنضج لدى الكاتب مجموعة من الأدوات والوسائل والتقنيات التي تعينه على صوغ هذه الحكاية أو تلك في قالب قصصي بديع، فيه عمق الفن، وثراء التجربة وقوة الملاحظة، والتشويق، لدفع القارئ الى تكملة القراءة ؛ يقول روي بيتر كلارك وهو يفرّق بين التقارير والقصص: "وظيفة التقرير نقل الأخبار، أمّا القصة فتصنع الخبرة، التقرير ينقل المعرفة، أمّا القصة فتنقل القارئ عبر حدود الزمان والمكان والخيال، التقرير يوجهنا إلى هناك، أمّا القصة فتضعنا هناك"..
ثمّ قال في موضع آخر "قيّم مدى نجاح المؤلف في دفعك إلى تكملة القراءة من عدمه".
كقارئ أقول: هل نجحت الكاتبة بلقيس خالد في دفعي إلى تكملة قراءة عملها الروائي "كائنات البُن"؟
إن الحدث الرئيس الذي ارتكزت عليه الرواية هي حادثة سقوط مدينة الموصل واحتلالها من قبل عصابات داعش الظلامية، وما تمخّض عن ذلك من أحداث أخرى كالاغتصاب والتقتيل والتهجير القسري وإهلاك الحرث والنسل، وقد كتبت الرواية بأسلوب خالٍ من التعقيد والمتاهات، وبلغة بسيطة وسهلة تقترب من المباشرة، لكنها بساطة تنطبق عليها صفة "السهل الممتنع"، وقد استخدمت أديبتنا اللغة على ثلاثة مستويات: لغة سردية فصحى، ولغة قريبة من لغة الشعر، ولغة خليط من اللهجة المحكية والفصحى "وأبعثرها للريح يتلقاها شليل زوجتي، تحمل استكانة شاي، المكان مزحوم، يقظة ماكرة تشترط قهوةً وشاياً سنكيناً، تعال نتناول الريوك معاً".
وكإشارة واعية من المؤلفة إلى كارثية الحدث، وكابوسيته، وظلاميته، وتوقف فعاليات الحياة، فقد كرّرت الكاتبة كلمة "الصمت" ومرادفاتها "44" مرة، ابتداءً من عنوان المقطع الاستهلالي لأنها على يقين أن التكرار يمنح عملها إيقاعاً خاصاً وتنوعاً، الهدف من استخدامه نقل حالة نفسية للقارئ، وإيصال مجموعة من الصور ربّما تكون غير موصولة عنده لتبيان حجم الكارثة، فالصمت :"ينتزع الثقة بالحياة" و"بين الكهوف نسير وننظر معطلة لغة الصوت .. الكهوف : كفن من حجر، وأمسنا الجميل .. مثل حجر سقط من حجر ولن يعود".
وبعد أن تحررت الأرض من الظلاميين وصاروا "يتساقطون واحداً تلو الآخر"، تحولت الكلمة ثانية إلى صوت كما كان كلّ شيء في البداية "آه، كم هو ثقيل الصمت.. قالت إحداهن.. أنعود نتنفس من الأرض؟ هل سيعود إلى الوجوه ماؤها؟ صوت ابتهالاتهن يعلو".
وتلاشت مفردة الصمت، ولكن "صارت العينان مفقوأتين: حين غابوا في الأقاصي.. لا جدوى من تشغيل الكلام: فالعين عاطلة عن الأحبة". فبرزت الحاجة إلى لفظة الصمت ثانية، فتحول أسلوبها إلى : كلام بين صمتين "صمت، كلام، صمت". ويعد ذلك شكلاً جمالياً يستهدف مخاطبة المتلقي قصد إشراكه، وبهذا الاعتبار يغدو النصّ مزيجاً من المصرّح به والمسكوت عنه .
ولا يفوت الكاتبة أن تكسو واقعية أحداث عملها الروائي بطبقة من الميتافيزيقا، في قصة خطف النساء من قبل الأشباح التي تسكن الكهف "يقال حين أمسكوهن انتزعوها من أحضاني "صمت" تحدّث نفسها هامسة صغيرة وترفة..... رموا جثتها بعيداً.. وهناك من يقول أنها استفاقت وذهبت مع النساء.. لحظتها أنا من الميتات.. وقالوا خطفتهنّ الأشباح التي تسكن ذلك الكهف.. يقولون أنّ الأشباح تسكن البراري والكهوف والجثث والقبور والخرائب ونحن تجاسرنا على ممالكهم.. وآخرين أشاعوا: انفتح باب في الأرض وابتلعهن، وهناك من يقول أن ابنتي هربت مع عشيقها الشاعر". فهل كانت الكاتبة بهذا التوظيف تشير إلى عدم إمكان التواصل الإنساني بوجود هذه الجماعات الطارئة، أم أنها أرادت الإشارة إلى سطوة قوة غامضة لا راد لها لا تريد التصريح باسمها؟
وبين الواقعية والميتافيزيقا كان للحب مساحة لا بأس بها في أحداث الرواية، تمثلت بحكايتي عشق لم تكتملا: الأولى لفلّاح، والثانية لشاعر.
انتهت الحكاية الأولى بموت الحبيبة بجريمة اغتصاب وحشية من قبل عصابة ظلامية مجهولة: "صرخت تستغيث ثمّ في يأس صاحت: أريد الاستحمام، قليلاً من الماء، ماء ماء، وتفتت صوتها.. خرج من كان معها قائلاً: "لم تحتمل" وهنا ممكن أن يتحول الهم الخاص "اغتصاب الحبيبة" في دلالته الرمزية إلى همّ عام "اغتصاب المجتمع"، أما الحكاية الثانية فبطلتها شابة منعتها أمها من الزواج بشاعر، وقد انتهت بفقدان الحبيبة وضياعها، ربّما سافرت إلى بلاد أخرى، وربّما اغتصبوها حتى الموت، ومن ثمّ أحرقوا جثتها، وربما قتلها شبح من الأشباح، كلّ الاحتمالات واردة.
وكما تنقلت الكاتبة بلقيس خالد في روايتها "كائنات البُن" برشاقة في لغتها بين فصحى وعامية، وكما تركت روايتها مغفلة من الأسماء، وكما حرصت على الدخول من بوابة الميتافيزيقا إلى عالم الواقع، وبالعكس، تركت نهاية روايتها مفتوحة تحتمل أكثر من وجه، لكي تفسح المجال للقارئ لكي يتخيّل نهاية مناسبة، تكون بداية لحياة جديدة.