من يتأمل الحياة الحافلة للاستاذ الفنان خليل شوقي لا يمكن ان يتجاهل الخصائص النفسية والاجتماعية التي كان لها مثل هذا الاثر، الذي قد يندر ان تجد مثيلا له في تاريخ فنون المسرح والاذاعة والسينما والتلفزيون. صحيح ان تاريخ الفن العراقي الحديث قد تأثر بشكيمة حقي الشبلي الرسمية المعلنة وبدبلوماسية يوسف العاني الطريفة الحذرة ورخاوة ابراهيم جلال العجيبة، وصمت جعفر السعدي العنيد. ولكن قد يجد دارس هذا الفن او باحثه المستوفر الحذر في شخصية الاستاذ خليل شوقي انموذجا متفردا في الشخصية والطباع والموهبة حول ما مارسه من اثر في القطاعات الفنية المذكورة تقرب من ثلثي القرن العشرين، مع فاعلية ملموسة في مغتربه الهولندي خلال العقد الاول من الالفية الثالثة، حينما قدم مع الفنان منذر حلمي اسطورة "السيد والعبد" من اخراج عوني كرومي وطافوا بها العديد من عواصم البلدان الاوربية.
موهبة مبكرة
من احدى محلات بغداد العريقة ذات السمات العثمانية ولد هذا الفنان في اعقاب تأسيس الدولة العراقية عام 1921. كان نشاطه التكويني الاول ممتدا بين محلتي الفضل وباب الشيخ قبل ان يشق شارع الملك غازي الذي عرف فيما بعد بشارع الكفاح وكان ربيب دروس الملالي وحلقات الذكر واناشيد الرياضة البغدادية القديمة "الزورخانة" بما فيها من ابتهالات ومقامات وبستات. كان مولعاً في سني فتوته وبلوغه بحكايات المنابر الحسينية والاذكار النبوية وايقاعات الدفوف الصوفية، مع استماع واستمتاع لأقدم قراء المقام العراقي امثال غازي العيشه وعبد الرحمن زيدان ورشيد القندرجي والشيخ معروف ومحمد القبانجي.
وحينما اكمل دراسته الرسمية في المتوسطة، عيّن بواسطة لا بد منها في ذلك الزمن في مصلحة السكك العراقية، وتعرف فيها على اضرابات عمالها وحيوية نقابتها. وكان وقتذاك شابا حيويا يرتاد دور السينما الحديثة ويقرأ ما تجود به المطابع المصرية واللبنانية من مجلات وكتب ودوريات.
وقبل ذلك او اثناء مرحلة التعليم في المدارس كان خليل شوقي قد تفتحت عيناه لأول مرة على اهالي بغداد وعرف معنى الطبقات والفوارق. ففي المدرسة كان معي ابن الوزير وابن النائب او ابن احد الاعيان، وكانوا يتنقلون الى المدرسة ويعودون منها في سيارات فاخرة. ومع ذلك فمثل هذه الوقائع او المشاهدات لم تترك في نفسه اي اثر للغيرة او الحقد. وبالطبع كانت ملابسهم افضل من ملابسه ومسار حياتهم ارقى من مسار حياته. ولكن كل هذا لم يصبه بأي عقدة من عقد المجتمع العراقي الملكي وقتذاك.
لقد ارتبط خليل شوقي في مطلع الاربعينيات من القرن الماضي باذاعة بغداد، وكان ممنهجا ومكافحا في مسلك ومسيرة هذه الاذاعة التي ابتدأ بثها اللاسلكي عام 1936 من خلال مرسلات ابو غريب، فعمل كممثل ومعد للبرامج المتنوعة مع اقطاب هذه الاذاعة الاوائل، امثال: عبد الحميد الدروبي وعبد الرحمن فوزي وعمو زكي وآخرين. وكان مثقفا وحرفيا في آن، ونادرا ما كان يقترن هذا النشاط برضا مؤسسات العهد الملكي واعلامه الرسمي حول النشاط او التكريم بشكل معلن. اذا كان التجاهل والتمهيش مقرونا بهذه الحيوية الفاعلة من دون ان تفت بالمرة من عضده او نشاطه اليساري المعروف، كونه ربيب المعتقلات الملكية ونزيل الموقف العام.
ومع ذلك، امتد نشاط هذا الفنان في تأسيس الفرق المسرحية الاولى في العراق، إذ كان عونا ورديفا للمحامي الفنان عبد الكريم هادي الحميد وجعفر السعدي في تأسيس الفرقة الشعبية للتمثيل عام 1947 ثم قرينا فاعلا ومؤثرا ليوسف العاني وابراهيم جلال في تأسيس فرقة مسرح الفن الحديث عام 1952. وفي حينها بدأت مواهبه التمثيلية تصطرع وتتكاثف وتتبلور في مسرحيات شعبية جادة ما زال ذكرها محتدما في انطولوجيا المسرح العراقي، ومنها "فلوس الدوه" و"راس الشليلة" و"لو بسراجين لو ظلمة" وتجلت اعظم ركائزها التمثيلية في متون يوسف العاني الشهيرة بمسرحية "انا امك يا شاكر" على قاعة الشعب في عام 1959.
اما في التلفزيون العراقي وما حدثت فيه من تشكيل وتأسيس عام 1956 كماهد اولي لكافة التلفزيونات العربية، فيقف خليل شوقي على رأس كوكبته الاولى من المخرجين والممثلين والفنيين المعروفين في ذلك الزمن ومنهم يوسف جرجيس حمد وكمال عاكف وخزعل مهدي وكاميران حسني وجعفر علي وخالد الامين وحسين التكريتي. ولقد وضعت الدراما العراقية وهي في مرحلة التأسيس خطواتها الاولى على سكة المتاعب والصعوبات بسبب غياب الخبرة بحرفيات العمل التلفزيوني والنقص الحاصل في الوسائل التقنية.
ربما كان الاهم من ذلك ان يجمع خليل شوقي بين التمثيل والتأليف والاخراج، وكانت تمثيلية "في مهب الريح" التلفزيونية اول تمثيلية يقدمها من هذا المنبر عام 1957. وكان على المشاهد العربي ان ينتظر خمس سنوات ليشاهد تمثيلية تلفزيونية اخرى مرادفة او تجاريها في النشأة والابتكار عند بدء البث التلفزيوني المصري عام 1961، من خلال تمثيلية "هارب من الايام" اعداد فيصل ندا عن رواية ثروت اباظة بالعنوان ذاته.
اخرج خليل شوقي العديد من الاعمال والمسلسلات الدرامية للكثير من الكتاب العراقيين، وكان يضفي على هذه الاعمال غلالة من الرمزية باستخدام موضعي لزوايا الكاميرا وليس استخداما عاما لكادر المنظر الشامل، فهو لا يجعل من شخصياته ترمز الى حقائق معينة تخفيها هذه الشخصيات في اعماقها، بل هو يختار بعضا منها، وينشئ بينها وبين احد الرموز علاقة تماثل، بحيث يصبح الرمز بديلا عن الشخصية، وتصبح هذه تعبيرا آخر عن الرمز، حدث هذا في "زقاق من العالم الثالث" للكاتب زهير الدجيلي في سبعينيات القرن المنصرم، ضمن عمل كانت بغداد ترمز فيه الى كل ما هو حر وواسع وعريض في الحياة والعادات والافكار، لهذا تتطلع الشخصيات الى الهروب من الحياة الضيقة الغبية التي تحياها في زقاق ضيق من اعمق اعماق قاع المدينة التقليدي، بحثا عن حياة حرة كريمة.
اقصى العقوبة في حب الوطن
لا يسع من يتبع حياة خليل شوقي واعماله الا ان يلاحظ تلك المفارقة الصارخة بين ذلك الحب العظيم الذي كان يحمله هذا الفنان لوطنه، وانشغاله المستمر بمشكلاته، في ظل معاملة المؤسسة السياسية لشعبه خصوصا في ظل دكتاتورية البعث الدومية الجائرة، وما تعرض له شخصيا من مكائدها منذ انقلاب 8 شباط 1963، من السجن "خلف السدة" الى الفصل الى تجنيد كل وسائل القمع للوقوف في طريق فنه، الى مجرد الاهمال. ولكنه رغم كل ذلك كان يلملم جراحاته النفسية والجسدية ويخرج فيلم "الحارس" في اواخر الستينات من تأليف وسيناريو الفنان قاسم حول وتمثيل الفنانين القديرين مكي البدري وزينب، ليفوز في احدى المهرجانات السينمائية الدولية بجائزة رفيعة.
على انه بعد سنوات قليلة من هذا التاريخ يتربع خليل شوقي كرسي النجومية المطلقة في كافة الفنون السمعبصرية، ويصبح فنانا مطلوبا من كافة المخرجين نظرا لبصمته الابداعية الساحرة التي يتركها في اي عمل يشارك فيه، خصوصا في اعمال مسرحية مع مخرجين كبار من وزن ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وقاسم محمد وعوني كرومي وفاضل خليل او مخرجين دراما وسينما معروفين امثال محمد شكري جميل وجعفر علي وفيصل الياسري وابراهيم عبد الجليل وابراهيم الصحن.
على ان لعنة الدكتاتورية البغيضة ظلت تطارده وتسعى للنيل منه، خصوصا في وقوف كريمتيه الفنانتين المعروفتين مي وروناك في صف المعارضة العراقية منذ اواخر السبعينيات، وهذا ما دعاه في سنواته الاخيرة الى اختيار حياة المنفى في هولندا مع عائلته الكريمة، من دون اي ضجيج او مزايدة حول هذا الاختيار القسري المؤلم.
في الفرج بعد الشدة
ويأتي الفرج بعد الشدة – كما في كتاب العلامة الشهير ابي حيان التوحيدي- بسقوط دولة الكدتاتور الصنم، فيجيء خليل شوقي معززا مكرما مع البعض من افراد عائلته ليقام له في مسرح بغداد احتفالا تكريميا رائعا يضوع بالزهور والفرح والموسيقى.
وحينما انفرد بالمايكرفون لوحده، اعتذر للجمهور من عدم تقديم اي شيء له بعد هذه الغربة، متمنيا الانصات لقراءة اسطورة "السيد والعبد" التي لم يحالفها الحظ في تقديمها بمسارح بغداد، كما قدمت قبل سنوات على مسارح اوربا. وهكذا، ولمدة اكثر من ساعة انصت الجمهور لصوت خليل شوقي العذب في انشاد هذه الاسطورة السومرية الخالدة.
حقا، ان خليل شوقي فنان مفرد بصيغة الجمع، ولكنه ايضا فنان الكل بجمع المفرد، فهو ممثل شامل، وهو مؤلف ومخرج تلفزيوني وسينمائي واذاعي منذ اربعينات القرن الماضي، يجيد الغناء والرقص والضرب على الايقاع. طيب المعشر سريع البديهة حاضر النكتة، جلد لا تهزه المحن والويلات، له سطوة لا تجارى امام الكاميرا او على منصات المسرح، وله استرخاء او رهاوة حسب تعبير يوسف العاني في الاداء والتعبير يحسده عليها الكثير من نجوم الفن. انه يعطي الشخصية التي يمثلها ابعادها الكاملة، جوتنبها المختلفة، تصرفاتها بمختلف المواقف، ومنها شخصية "مصطفى القجقجي" في "النخلة والجيران" و "دبش القهوجي" في "القربان" و "الراوي" في "كان يا ما كان" و "ابو الشمقمق" في "بغداد الازل" و "قادر بيك" في "النسر وعيون المدينة" وغيرها الكثير والكثير.
اعتقد اخيرا، ان هناك انتقالا وتجاوزا في كل شخصية يؤديها هذا الفنان ومن المستحيل ان تحكم على ادواره بالتشابه، لانك تنزع عنه كل قيمة واصالة وتجعله تابعا للنمط، وهذا لا يمكن تعميمه، بل ولا يصح.