كم أكره القرن العشرين، هذه العتبة الاستفزازية قد تنفض كسل المتلقي وتحوله إلى طاقة إيجابية للقيام بفعل القراءة، كيفما تكون هذه القراءة مع أو ضد أو محايدة أو فيما يسمى بالقراءة الفاعلة أو الخاملة، إلا أن خطاب الكراهية الذي تفصح عنه عتبة النص قد لا يكون أصلا كما هو في الظاهر، وإنما يهدف إلى استفزاز ذات المتلقي، لكن أين يكون مرسى الحقيقة؟ وأين تكمن بياضات النص الواقعية؟ هل تكمن في متوالية الحكايات السردية في المتن العام للنص أم في المسرد الإيضاحي لهوامش النص؟
يعاد تثبيت العتبة في صدر الغلاف الأخير مع مقتبس نصي، هو في حد ذاته يكاد يكون مستقلا عن النص الروائي ليشكل لنفسه نصا إشكاليا في خطاب الآخر بعد أن شاخت مدينته وتحولت إلى مدينة شبحية في أواخر القرن العشرين "شاخت البصرة يا بالاجاني، غادرت ماضيها رسميا بلا رحمة، وتحولت نهاراتها إلى مترادفات مبهمة، قبيحة الوجوه، وفاقدة للوضوح أيضا".
يقدّم النص السابق معطى معلوماتيا عن المكان، والمكان مع غرابة الاسم "بالاجاني" قد يحيل إلى ماضي هذه المدينة كما يشير إلى حاضرها، وفي العودة إلى الغلاف الأول نرى "معلقة بلوشي" والبصرة موطن البلوش، فهل يمكن أن يدخل هذا النص في الكشف عن المهمش والمسكوت عنه في التاريخ الإنساني لهذه المدينة وتعشقيه مع حاضرها الذي شهد الويلات والكوارث والدمار في الماضي والحاضر والتي مازالت تحلم بشرب الماء العذب.
والسؤال: أين يقف النص؟ وأي منطقة اختار العبيدي للوقوف فيها من أجل إيضاح خطابه الجمالي، وأي المحطات سوف يمر عبرها؟ لاسيما أن كل الطرق للمدينة وعرة ومفخخة في الحكايات المتضاربة، كما أن أبوابها موصدة في وجه بياض الحقيقة، هل يقفز عابرا بالخيال كل تلك المعيقات ليتكئ على حكايات الناس "الشطار والعياريين" ويؤسس لنصه زاوية يستريح فيها من عناء حفريات التاريخ ونبش ملح طين الحاضر الذي أكل جلود أبناء المدينة في ساحات الحرب وشظايا القصف والجوع والموت المجاني حتى إن أحلامه لم تجد لها فسحة على أرصفة الشوارع التي هاجرتها السيقان البضة في سنوات الشوق؟
تلك محنة الكاتب، من أين يبدأ؟ وكيف يؤسس لبناء هرمه السردي؟ المكونات الأساسية لبناء الحكاية توفرت كلها، لكنها لا تستطيع أن تنطق أو تشير أو تدل على نفسها بوصفها علامة، انه ما زال في طور الشكليات "هذه الرواية من نسج الخيال، وإذا اتفق أن تشابهت حوادثها وأشخاصها وأمكنتها مع أشخاص حقيقيين، وحوادث وأمكنة حقيقية، فهذا محض مصادفة،ومجرد من أي قصد".
بعد أن نعبر شاهد الإهداء، يضعنا الكاتب في فخ السياسة "موجز اتفاقية هاولير"، إذ تحيل هذه العتبة إلى اتفاق 18 وما ترتب على ذلك الاتفاق من التزامات حكومة المركز إلى الإقليم، إلا أن موجز العبيدي يختلف اختلافا كليا، فهو إشاري وإيضاحي لإطلاق "سراح فصول ما لا يحصى من غرائب الأحداث والوقائع والمفاجآت" "الرواية"، بمعنى أراد الكاتب من هذا الموجز أن يكون مفتتحا لانطلاق البنية السردية للنص وإيضاح المكونات المؤسسة أو التي ترتكز عليها أسس الحكاية أو المتواليات الحكائية.
هذه المرتكزات هي:
أولا: الخيال
ثانيا: الدفاتر
ثالثا: الاتصالات والحوارات والاستفسارات
رابعا: الوصية في تنفيذ التكليف "الكتابة".
ماذا لو اعتذر الكاتب عن تنفيذ الوصية بعد سنة من مخاض ولادة هذا النص؟تتبخر الحكاية ونفقد نصا لا يمكن أن يكتب من قبل كاتب آخر، فهذا نص حياة المكان وتاريخه وحاضره، وهو نص حياة الكاتب في تخيله لمدينته "البصرة"، لذلك رسم إمدادته من أعالي جبال العراق ليقف على بسيطته الخضراء في مسطحاتها المائية أو في رملها الصحراوي، فهناك كانت حكايات البلوش وهناك كتبت معلقتهم "مضت سنة لعينة شديدة القسوة، تهشمت فيها نهاراتي وليالي ، وبدأت بتدوين سطور هذه الاتفاقية قبل أن أبحر مرغما في سرد هذه الرواية".
يشكل هذا الموجز البنية الفنية لإطلاق سراح الحكاية الذاكرة الإنسانية والورقية والسمعية وتأسيس حكاية عصر جديد في قرن جديد، فقد ارتكز كبنية على الدفاتر التي كتبها عزت خان بالاجاني وما سرده من حكايات في الدفتر الأول والثاني، فضلا عن الصندوقين الأول والثاني السابقين للدفترين، مما يكشف مع الفصول أو اللوحات الأخرى على استثمار الكاتب لمختلف الفنون ومزجها بقالب سردي، فقد مزج كتابة المذكرات بالسمعيات والمرئيات واستحضار التاريخ واستنطاقه في الحاضر.
"
قلت لها أيضا: لكل أمة لعبة شهيرة تستمدها من تراثها، أو تبتكرها أو تأخذها من أمم أخرى، لا حياة بلا ألعاب، ولا ألعاب بلا لعبة تستحوذ على عشق الغالبية، وتغدو سيدة الألعاب، في عراق الحروب ابتكر الشماريخ لعبة الهارب والزنبور".
في سنوات الموت تبتكر الكائنات الحية كلها وسائلها للحفاظ على الحياة، الطيور، الحيوانات الأليفة والسائبة، الإنس والجن والحيوانات المائية، فالحرب لا تستثني أحدا، لذلك كانت لعبة "الهارب والزنبور" لعبة كل يوم للحفاظ على الحياة، وقد لا تنجح في بعض الأحيان لسوء حظ الهارب أو شيطنة الزنبور في لدغ الهارب.
في سفر التفاصيل الحكاية لا يفصح السارد عن الأطروحة الإطارية للمتن وإنما يترك تلك المهمة للمتلقي ليرسم ذلك الإطار إلا أنه لا يرسم ذلك بعفوية مطلقة، وإنما هناك موجهات حدثية في متن الحكاية تؤثث صورة الإطار للنص، مستجيبا للإطارية الفكرية للكاتب، بمعنى أن السارد ليس حرا في البوح بما يريد من هذه الزاوية، وإنما مقيد بمحددات ووظائف تفصح عن مسببات أو خطاب الكراهية للقرن العشرين، قرن الكوارث والحروب والويلات والدمار على مستوى العالم ككل وليس البصرة أو العراق فقط، فإذا كان خطاب الكراهية للقرن العشرين هو السائد في الحكاية فهذا هو الظاهر المخادع أو الخطاب الموارب للنص الذي يتيح لخطاب الجمال والسلام ليسود من خلال الكشف عن الكراهية ودحرها بالمحبة مثلما هو الأمر في دفن مولود البلوشي في بلاد المنفى وإخراجه بعد عشر سنوات لدفنه على عمق أكثر، متيحا لآخر أن يحل في موقعه الأول.
وإذا كان خطاب المتن يكشف عن وجهَي المعادلة فإن خطاب المسرد الإيضاحي الختامي واضحا من حيث الدلالة النصية الجمالية العامة الذي كشف عن المهيمنات التاريخية والاجتماعية والحياتية والسلوكية للمتن النصي، وهو الخطاب الشمولي الإنساني الذي يقفز على محلية الحكاية إلى شمولية الخطاب الجمالي الإنساني.
هذا الإيجاز يحفزنا إلى الوقوف على شفرات هذا النص، مثلما يحفزنا على إضاءة الجوانب التي رممت وشكلت أصل حكايات البلوش وقدرات التخيل السردي التي حافظت على إيقاع السرد في هدوئه وتدفقه.