عند قراءة المجموعة الشعرية "ما يضيئه الظلام ويطفئه الضوء" للشاعر حمدان طاهر المالكي، فإن اول ما يتبادر الى الذهن هو "الثنائية" التي يحملها العنوان بين كلماته، وهي ثنائية ضدية، ضدية الاضاءة واللا اضاءة "اطفائها"، وضدية الظلام والضوء. ومن يقرأ قصائد هذه المجموعة سيرى كم كان الشاعر موفقا في اختيار هذا العنوان، لما نستشفه في قصائدها من ضدية ثنائية.
* "
في أعماق الضرير
نهارٌ أخرسُ,
نظرة يشعلها الظلام
وتطفئها الأضواء".
في المجموعة سنطالع ثلاث قصائد تتناص مع ثلاث اساطير توراتية "سفر التكوين" استلتها التوراة من اساطير سومرية، وبابلية، وكنعانية تعود الى الارث السومري ايضاً. أي ان الشاعر اعادنا الى الارث الاسطوري السومري مرة اخرى.
الاسطورة الاولى هي اسطورة "آدم وحواء" والتي تناصت معها قصيدة "صعود". والاسطورة الثانية هي اسطورة "نوح والطوفان" التي تناصت معها قصيدة "الوصول الى الله". والاسطورة الثالثة هي اسطورة "يوسف" المتأثرة بأسطورة جلجامش التي تناصت معها قصيدة "البحث عن يوسفَ جديدٍ".
والتناص هو آلية اجرائية تعمل اثناء الدراسة والفحص لمعرفة تداخل النصوص فيما بينها، ان كان النص الحالي في النصوص المجايلة معه، او كان قد سبقته في الانشاء.
في هذه الدراسة سنستخدم هذه الآلية لفحص النصوص الثلاثة.
***
النص الاول:
* "
أنا قديم جدّا
لا أعرف متى بدأت,
سمعت حواء
تقول لآدم
كُلْ يا رفيقي
لننعم بالخلود.
لم أر سوءة أحد
ولم آكل من الشجرة
لكنّي هبطت,
حين تلقى آدم الكلمات
لم يعلمني منها شيئا,
ومنذ ذلك اليوم
وأنا أبحث عنها
لأصعد إلى الجنة".
في هذا النص هناك شخص مقحم على الاسطورة الاصل، وهو الذي يكتب القصيدة، حيث يعرف نفسه بانه "قديم جدا"، وكذلك يقول: "لا أعرف متى بدأت". هذا الشخص يبحث عن الكلمات التي علمها الله لآدم لكي يصعد هو، الى الجنة فتكون جواز سفر له.
"
حين تلقى آدم الكلمات
لم يعلمني منها شيئا,
ومنذ ذلك اليوم
وأنا أبحث عنها
لأصعد إلى الجنة".
فمن هو هذا الشخص؟
لنفترض انه هو الشاعر، وانه يريد الوصول الى الجنة، لأنه لم يذنب في حياته، فهو لم ير سوءة احد، ولم يأكل من الشجرة التي اكل منها آدم، الا انه هبط من الجنة مع ادم وحواء، وهو لا ذنب له.
القصيدة هذه هي بحث في الوجود، حيث الانسان المتمثل بالشاعر، الشخص المقحم على الاسطورة، يبحث عن كينونته ويريد ان يعود مرة اخرى الى الجنة التي كان فيها، فهو لم يخطئ مثل ادم وحواء لكي يطرد منها، كالشعراء المطرودين من جمهورية افلاطون، مع العلم انهم من صانعي الجمال الانساني، كما هو.
فهو صانع للجمال، والجنة تحتاج الى مثله، لا الى ادم وحواء الذين اخطؤوا فطردوا منها.
ولما كان التفسير يذهب بالشعر وجماليته، وحسن تلقيه، لقلنا ربما يود شخص القصيدة ان يدخل الجنة، لأنه يرغب بالشهادة، والا ما كان له ان يبحث عن الاسماء التي علمها الله لآدم، وهذه الاسماء تكون قدسيتها في ذاتها، انها كالموت في سبيل الوطن، أي الوصول الى الشهادة في الدفاع عنه، للصعود الى الجنة.
السؤال: هل كان شخص القصيدة يبحث عن الجنة كثواب للشهادة، ام لتكون جميلة به؟
***
النص الثاني: "الوصول إلى الله".
"
بالأمس تخيلت
أني نوح,
لم تكن معي أخشاب
لأصنع سفينة
ولم يكن لي ولد
يعصي أوامر الله,
كان هناك الكثير
من القتلة الذين يحومون
حول معجزتي
التي لم يصدقها أحد غيرهم.
جثث كثيرة ملأت المدينة
فكرت بالطوفان
حلاّ أخيرا
لكن الجثث ركبت
توابيتها وعبرت.
وها أنا الآن أغرق
بيدي عُلبة معجزات
منتهية الصلاحية
فيما كان القتلة
يتسلقون الجبل
للوصول إلى الله".
اذا كان الشاعر في القصيدة الاولى يريد الصعود الى الاعلى ليصل الى الجنة لأنه شاعر صانع للجمال والجنة تحتاج الى من يصنع الجمال فيها، او انه يريد الاستشهاد في سبيل وطنه كما قرأت تلك القصيدة، فهو في هذه القصيدة يريد ان يصل الى الله ليقدم شكواه عن القتلة الذين ملأوا الدنيا بقتلاهم.
تتناص هذه القصيدة واسطورة الطوفان السومرية، فـ "زيوسودرا" السومري، و"اوتونابشتم البابلي"، وكذلك "اتراحيس البابلي"، فقد سمته التوراة نوح.
فها هو "يتخيل" انه نوح صاحب الطوفان في الاساطير، مع العلم ان نوح القصيدة لا يملك الخشب ليصنع الفلك، ولا ولد له يعصي الله، ولكن هناك القتلة الذين يريدون به شراً، وهو يملك المعجزة التي من ورائها يريدون قتلة.
***
النص الثالث: "نص البحث عن يوسفَ جديدٍ"
* "
رأيت أحد عشر رجلا
كانت ثيابهم غريبة
الوجوه أيضا غريبة,
نزلوا من سيارة حديثة
قالوا بصوت واحد
هل رأيت غلاما
وصفوه بأحسن الصّفات,
حين أخرجوا صورته
كانت صورته تشبه يوسف
قلت أليس هو يوسف النبي
قالوا لسنا متأكدين من ذلك,
أرجوك ساعدنا
ابحث معنا عن أي شيء
يدلّ عليه
حتى لو كان قميصا ممزّقا".
هذه القصيدة التي تتناص مع اسطورة يوسف التوراتية المستلة بتصرف من اسطورة جلجامش السومرية، إذ تتحول قصة يوسف التوراتية/ القرآنية الى قصيدة تغاير الاسطورة السومرية والتوراتية والقرآنية.
في قصة يوسف، التوراتية/ القرآنية، هناك احد عشر كوكبا يراهم يوسف في رؤياه، وهم مجموع اخوته من ابيه الذين يضمرون له شراً فيحاولون قتله، فيما القصيدة تخبرنا ان هؤلاء رجال معاصرون تقلهم سيارة حديثة الطراز، جاؤوا للبحث عن شخص يحملون صورة له يشبه يوسف.
السيارة هنا فيها تورية، حيث السيارة التوراتية تعني قافلة من الجمال، فيما السيارة في القصيدة تعني السيارة الحديثة المصنوعة من الحديد.
هؤلاء يبحثون عن يوسف، وأولئك في الاسطورة ينقذون يوسف من غيابت الجب/ البئر، "قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ".
في القصيدة يبحث الرجال عن قميص يوسف ليدلهم عليه، فيما في الاسطورة نجد ثلاثة قمصان، القميص الذي كان يرتديه عند رميه في الجب، والقميص الثاني الذي مزقته امرأة العزيز، والقميص الثالث الذي ارسله الى ابيه فيما في القصيدة نجد قميصا واحدا، لان أي قميص من القمصان الثلاثة يفيدها.
السؤال: ماذا يعني يوسف في القصيدة؟ أيعني العراق؟
***
هكذا تختلف الاسطورة عنها في قصيدة الشاعر المالكي التي قدمتها هذه المجموعة الشعرية، فتأتي آليه التناص لتكشف للقارئ كيفية تداخل النصين، وفي أي مفصل قد تداخلا، ان كان هذا التداخل هو التأثر والتأثير بين النصين، او بتغير مسار الحركة او الفعل بينهما.
***
الم تكن هذه القراءة هي واحدة من بين القراءات المتعددة والمختلفة التي تنشأ اثناء سيرورة وصيرورة القراءة الابداعية لنصوص الشاعر المالكي، خاصة في هذه القصائد الثلاثة؟
نعم، هي قراءة صاحب هذه السطور ولا يمكن عدها القراءة الوحيدة لهذه القصائد، وللقراء الاخرين ان يقرأوا هذه المجموعة ليصلوا الى التفسير أو التأويل الذي ينسجم مع ذائقتهم الشعرية في التقبل والفهم وتذوق جماليات الشعر.