لاحظ البائع تذمر بعض الزبائن وانسحابهم بسبب كثرة الأطفال الذين كانوا يدورون حول العربة ويطارد بعضهم بعضا. انزعج الرجل من لهوهم، واحتمال انقطاع رزقه بسببهم، فعمد إلى نهرهم. حذَّرهم وتوعدهم مرارا، وفي النهاية غضب منهم وخاطبهم مازحا: اليوم سيكون القصف المدفعي الإيراني على أشده، "شوفوا منو الي راح يحميكم"؟
سمعه "ازْوَيدوه". من سوء حظه العاثر في ظهيرة ذلك اليوم، مرور "زياد" من جانب العربة، ولذا بات لزاما على ثعبان مسعور مثله أن يخبر دائرة الأمن بأن "فائق أبو اللبلبي" هو "مجرم وخائن وعميل، يقف في صف العدو الإيراني، ويخيف أطفال العراق العظيم من حفنة شظايا خائبة، عجزت عن ثني هؤلاء الطلائع والفتوة من اللعب في الشوارع".
هذه ليست "لجلجلوتيّة" بل تقرير حزبي رسمي!
لم يمض يوم لا غير، حتى جرى تنفيذ أمر اعتقال البائع أمام أنظار المارة. ظلت عربته ساكنة، ترتجف لوحدها على الرصيف، ومعها ظل يرتجف البخار المتصاعد من قدر اللبلبي. لم يقترب منها أحد، ولم يفكر أحد في ايداعها ببيته أو دكانه، باتت مصدر رعب للجميع، عربة عميل!
بعد مضي دقائق على غياب صاحبها المسكين، أصبحت عربة الخائن عرضة "للفرهود". نهب الصبية "اللبلبي، وقناني اللمندوزي، وأشياف الليمون، والفلفل الحار، وكيس "النومي فاش، والچمچه، وكاسات الفرفوري والملاعق"، ثم سرقوا "قدر الفافون الكبير، والبريمز النفطي، وقمرية العربة"، وانتهى مهرجان الفرهود السريع بخلع كل اكسسوارات العربة المعلقة وملصقاتها الخارجية وعجلاتها الربل"!
في صبيحة أول يوم جمعة تلت الاعتقال، عرض أحدهم "عربة فوقي" الصفراء للبيع في سوق الجمعة. بدت "معاقة" وعارية تماما، تسكن لوحدها جاثمة على الرصيف. لا قمرية، ولا اكسسوارات، ولا بخار شهي يتصاعد، ولا... "لبلبي حار ومستوي"، وقبل كل ذلك بدت يتيمة، شديدة الحزن على غياب صديق عمرها المجرم العميل الخائن فوقي!
في نهاية تسعينيات القرن الماضي قمت بزيارة صديق مكث في مستشفى الرشاد لشهور عدة. وبعد حوار شيق معه، أخذ يعرفني على "أصدقائه الجدد" من النزلاء. قال لي: "هذا سقراط وهذا غاليليو غاليليه، وهذا نيتشه وهذا نابليون، وهذا....".
توقف أمامنا رجل عجوز محني الظهر، حدق في وجهي لثواني، ثم اجتازنا ببطء مردداً: "حار ومستوي".
سألت صاحبي: هل هذا فيلسوف هو الآخر؟
أجابني مبتسماً بحزن: "ألم تعرفه؟ هذا فائق، فوقي أبو اللبلبي"!