تراكمات الألم داخل الوطن وصعوبات الحياة وضغوط السلطة آنذاك في الاستجواب المتكرر والاعتقال الذي نتج عنه الخوف من المجهول والذهاب قسراً الى ساحة الحرب ما بين العراق وايران! وأشياء كثيرة ضغطت على الشاعر والروائي حميد العقابي وجعلته يفكر بالهرب من نيران الموت المحقق أثناء واحدة من المعارك الحامية في تلك الحرب اللعينة التي استنزفت كل الأشياء الجميلة ودمرتها، هروب الى المجهول بعد سجون وتنقلات طويلة داخل ايران حتى نجاحه في الوصول الى سوريا ومنها الى الدانمارك قبل ثلاثة عقود، كل هذه الصفحات المؤلمة كونت غزارة من الألم عكسها الشاعر عبر قصائده ورواياته التي اصدرها خلال العقدين الماضيين. لقد تمكن الشاعر الراحل حميد العقابي أن يقدم نصاً ذا مواصفات فنية عالية سواء كان في الشعر أو في الرواية وكذلك في كتابته السيرة الذاتية بطريقة روائية قد تتفوق في أحايين كثيرة على النص الروائي لِما للكثير من المآسي والظروف المعقدة في تجربته التي مرت خلال ترحاله في المنافي الطويلة.
وقبل رحيله المفجع في الدانمارك بداية عام 2017 كان قد بشر بانتظار صدور مجموعته الأخيرة والتي جاءت بعنوان "القطار" لكنه لم يشهد ولادتها فقد خطفه الموت في غفلة من الزمن.
في أغلب نصوص المجموعة ينتقل بنا الشاعر عبر قطار الغربة الذي ظل يستقله وهو يجوب مدنا كثيرة منذ أكثر من عشرين عاماً في منفاه الأخير الدانمارك، مدن لا تمت له بصلة رغم جمالها وأناقتها، ولم تتمكن سنوات المنافي الطويلة من تغييره أو أن توقف بوجه حبه وطنه الذي ظل علامة مشعة بالحنين في أغلب نصوصه التي يكتبها، لكنه ظلَّ يقف وحيداً في محطة القطار التي سوف توصله الى بلاده العراق ومدينته الكوت ودجلة النهر الذي يعشقه والذي يبهر كل من زاره، فكيف بأبنائه الذين تربوا قربه وغادروه مرغمين لعشرات السنين؟
قصائد مجموعة القطار أنيقة في شعريتها وفي لغتها وتبدو مثل المصباح الذي ينير الطريق في الظلمة، فالشاعر العقابي متمكن من لغته العالية، يطوعها كيف شاء ليجعل منها لوحة فنية مغروسة وسط القلب.
يحدثنا الشاعر في القصيدة على لسان بناته الصغيرات اللواتي لم يرينَ العراق ولا نهر دجلة، فيطلبن منه الذهاب في الصيف الى المصايف او الى البحار فيتوسلنه ليأخذهن الى جزر الكناري ولو مرة واحدة او حتى الى مدينة الكوت التي ولد فيها الأب الشاعر لان البنات لم يرين نهر دجلة وخاصة البنت الكبيرة التي اسمها دجلة، فيرد الأب في القصيدة غداً يكون لكل واحدةٍ طريق للمدى، اما هو فسوف يعبر بحر البلطيق مشياً وهو يحمل دجلة ابنته أو سيعود في قطار عاطل الى الجنوب ويقصد جنوب العراق ومدينته الكوت، النص تفوح منه رائحة الغربة ورائحة الحنين في العودة الى الوطن ورائحة الشعور بالانكسار الذي يلف الشاعر منذ وطأت قدماه أرض الغربة الموحشة، الشاعر الراحل حميد العقابي يتألق ويبهرنا في نصوصه الشعرية كما تألق وأبهرنا من قبل في رواياته. فيقول في نصه الأنيق بحزنه والأنيق بلغته الجميلة التي تنير النص وتجعله شمعة تضيء عيون القارىء :
تقولُ ليَ ابنتايَ :الصيفُ جاءَ
الناسُ ترحلُ للمصايفِ،للبحارِ
ونحنُ لم نمضِ لأبعدِ من مدينتنا الفقيرةِ
أنتَ ترحلُ في قطارٍ عاطلٍ
خذْنا إلى جزرِ الكناري مرةً
أو... فليكنْ للكوتِ
لم نرَ دجلةً، خذْنا إليها....
يا ابْنتيَّ، غداً يكونُ لكلِ واحدةٍ طريقٌ للمدى
أمّا أنا، يوماً
سأحملُ دجلتي وسأعبرُ البلطيقَ مشياً
أو سأرحلُ في قطارٍ عاطلٍ نحو الجنوبْ..

عرض مقالات: