كانت لنا دراما تلفزيونية رائدة سبقت دراما دول الجوار العربي بأعوام ومراحل طويلة، وكان لدينا كتاب دراميون ومخرجون بارزون وممثلون بارعون. وكانت الدنيا وقتذاك غير الدنيا في زمننا العصيب الراهن. وكان الحديث أو الرأي حول الدراما التلفزيونية العراقية هو نبض الشارع وسمر العائلة وجدل المقاهي والحانات والموائد المستديرة في المنتديات والصالونات الثقافية، فاصبح حضور هذه الدراما واجباً وملزماً يتصاعد حضوره يوماً بعد يوم وتعتمده محطة التلفزيون العراقي ولا تحيد عنه، وهو ما يؤكد الاهمية الاستثنائية التي تنطوي عليها الدراما المتلفزة وهذا ما يجعلها جديرة بالذكر والذكرى.
ولا يكفي القول بأن التلفزيون العراقي قد حمل بشارة الريادة وقصب السبق لمحطات التلفزة العربية، وانما كان المجلى الاول في تدشين اسس الدراما المحلية منذ أرساله الوطني في أيار 1956 وهو "الامتياز" الذي يضفي عليه تميزاً في ابتكار وصناعة الدراما المتلفزة في خارطة الوطن العربي في طريق غير ممهدة بالمرة. فمنذ اولى التمثيليات الدرامية "سلطة زواج، في مهب الريح، بطاقة يانصيب" على يد الفنان خليل شوقي واقرانه الرواد كيوسف جرجيس وكاميران حسني وخزعل مهدي وكمال عاكف وحسين التكريتي وابراهيم الديواني وآخرين، انبثقت الدراما التلفزيونية من دور الاستحالة العضوي في تكوين الجنين وعسر المخاض الذي لا يستكين أو يهدأ الا بالعملية القيصرية، لغياب الخبرة وحرفيات العمل التلفزيوني والنقص الهائل في التقنيات.
كان الديكور بسيطاً والإضاءة ساذجة والازياء والاكسسوارات تجلب من بيوت المشاركين. وكان التمرين وحفظ الادوار يجري في الصباح، والتمثيل يقدم امام الكاميرا حياً في المساء. والويل كل الويل ان تلكأ ممثل في دوره او سقطت قطعة من الديكور أو مفردة من مفردات الاكسسوار على الارض، فهذا هو الخراب المبين او الموت الزؤام لكل تمثيلية درامية أو فاصل ترفيهي أو "أسكيتش" غنائي. وكل ذلك ينهض تحت مسقف من الصفيح "بنكلة" معرضة لحرارة القيظ واشتداد الريح او زخات المطر.
وحينما انضم الفنان فيصل الياسري الى الرهط المذكور عام 1958عُّد أول عراقي واسبق عربي مارس الاخراج التلفزيوني بعد دراسة متخصصة في معاهد "لايبزك" الاوربية، فاكتمل العقد ومضت الدراما في خطها الصاعد الذي بدأته منذ صدورها. وفي هذه الاجواء بدأت بذور المشهد الدرامي بالتفتح، ومن هؤلاء خرج جيل رائد من مشهد الدراما التلفازية العربية، فهل كان هذا المشهد وذلك الجيل جديدين حقاً.
بلى، كان جيلاً ومشهداً جديدين، تاريخياً وموضوعياً، ولا أهمية – في رأينا – لما يقال خلافاً لذلك، فالمعطيات التاريخية تثبت ذلك. ولنتذكر شركة تلفزيون لبنان التي بدأت عام 1959. اما في مصر وسوريا فان البث التلفزيوني بدأ في عام 1962 حينما كانا يشكلان معاً اقليمي الجمهورية العربية المتحدة القائمة وقتذاك. أما في الاردن فقد بدأ التلفزيون بثه عام 1968، وقد تفاوتت وتباينت تواريخ تأسيس محطات التلفزيون في بلدان الخليج العربي، حينما بدأ ارسال التلفزيون الكويتي عام 1961 والسعودي عام 1965 وابو ظبي 1969 وقطر 1970 والبحرين 1973 وسلطنة عمان 1974.
ومع ذلك تميز جيل التلفزة العراقية ومشهده الدرامي بعوامل موضوعية قاهرة تختلف عن أجيال التلفزة العربية سياسياً، اذ تشكل في ظل نظام ملكي شبه اقطاعي وتفتح وعيه في رحم الثقافة التقليدية، وان تمرد عليها لكي يكون جديداً خلاقاً ريادياً فعلاً، فقد رافق هذا الجيل حركة الشعر الحر "شعر التفعيلة" والقصة الجديدة والفنون العراقية الحديثة في الرسم والنحت والعمارة وكان يطمح الى تطويرها والاعلان عنها او الاحتفاء بها تلفزيونياً في أول مبادرة للإعلام المرئي. الامر الذي يدلل بانه لم يهبط من السماء ولم يظهر اعتباطاً، بل كان جيلاً شكلته ظروف تاريخية وذاتية وموضوعية معاً.
مقارنات لا بد منها
ولكن ثمة حقيقة لا بد من الاشارة اليها وهي ان مصر وان لم تمتلك الريادة الزمنية في التأسيس وتدشين بواكير الدراما التلفزيونية كما حدث في العراق، الا انها والحق يقال تصدرت الانتاج الدرامي العربي كله، بفاعلية تعدادها السكاني الكبير وما وفرته لها حركة السينما بما يتوافر لها من طاقات واختصاصات فنية وامكانات قريبة لشروط الدراما التلفزيونية، فضلاً عن لغة الحوار الطريفة المحببة باللهجة المصرية القبلية والبحرية المقبولة في جميع البلدان العربية - وهي من فضائل الحركة السينمائية ايضاً – مع ديناميكية الفنانين المصريين المعروفة في المناقشة والحوار والمناورة واهتبال الفرص السانحة، حتى وان كانت وراء الصحارى او اعالي البحار من خلال التمثيل او الانتاج المشترك او المساهمة في التعليم الفني والجامعي في عموم الوطن العربي.
ومع ان التلفزيون السوري بدأ بثه مع بدء بث التلفزيون المصري الا ان الدراما التلفزيونية السورية لم تتوافر على النجاح مثل الدراما المصرية لغياب النشاط السينمائي ومحدودية الانتاج ومعضلة اللهجة، ولم يتسن لها النهوض الا في العقد التسعيني المنصرم بفاعلية بعض المخرجين المحنكين أشهرهم محمود عزيزية. وهكذا الامر بالنسبة للدراما اللبنانية للأسباب ذاتها على الرغم من مشاهداتنا المحدودة لبعض مسلسلاتها، ومنها "عازف الليل" و"بنت البواب" و"محيرني يا زمان".
ولم يتح للأردن النهوض بالمستوى الدرامي المطلوب الذي راجت مسلسلاته البدوية في العراق وبلدان الخليج العربي، خصوصاً في العقد الثمانيني من القرن العشرين بفعل حرب الخليج الاولى التي وجد فيها المشاهد في تلك البلدان متنفساً لأجواء البادية بعاداتها وتقاليدها وطبيعة الصراعات التي تحكمها، الا ان الاصرار على انتاج هذه المسلسلات بشكل مستمر جعلها تهوي في فخ المراوحة والتكرار وأضعف قدراتها في المطاولة او التنافس مع المسلسلات المصرية المتنوعة والمطلوبة في عموم البلدان العربية.
ومن بين المسلسلات الخليجية في الدراما التلفزيونية تتفوق الكويت وحدها على مثيلاتها من حيث الكم والنوع لاعتبارات مادية وفنية باذخة فضلاً عن عامل الزمن في التأسيس وتراكم الخبرة، الى جانب وجود حركة مسرحية ناشطة ومتميزة، وهذا ما دعا بعض المخرجين المصريين والسوريين والعراقيين - ومنهم فيصل الياسري وعدنان ابراهيم وفلاح هاشم – الى الاقامة فيها. ومع ذلك فإن سوقها لا يتعدى بلدان التعاون الخليجي والعراق احياناً، بفعل اللهجة المتقاربة، والكوميديا الطريفة.
الفاعلية في التطور
لعل دخول جهاز الفيديو الى العراق في منتصف الستينيات قد شكل منعطفاً حاسماً في حركة الدراما التلفزيونية وتدخل في تأسيس مرحلة جديدة من مراحل مسارها، وكان أول ما حققه هذا الجهاز إنه أنقذ الدراما من مطبات البث الحي وساهم في إتاحة الفرص للمخرجين وبقية التقنيين في العمل برويّة وتخطيط مبرمج، خصوصاً في ما يتعلق بالمونتاج والتقطيع الصوري ووفر لجميع العاملين هدوء البال والراحة النفسية فانعكس ذلك على الطرق الاخراجية واساليب التمثيل وتأثيث الفضاء الدرامي وتنويع الاضاءة وبقية التقنيات المصاحبة. وهكذا ابتدأت مرحلة المسلسلات الى جانب التمثيليات والسهرات التلفزيونية المعروفة التي مارست حضورها لأكثر من عشر سنوات.
وساهمت الفرق المسرحية الاهلية في رفد الانتاج التلفزيوني بالمؤلفين والمخرجين والممثلين، خصوصاً فرق المسرح الحديث والشعبي واليوم و14 تموز واتحاد الفنانين، خلال الاعوام الممتدة بين 1962 و 1978 فظلت الاعمال التلفزيونية قريبة من روح المسرح الصارمة ولم تتمرد عليها طيلة عقدين من السنين الا بعد عودة الكوادر الاخراجية من دراستها في بلدان اوربا وامريكا، امثال جعفر علي وكارلو هارتيون وعمانوئيل رسام ونبيل يوسف وحسن الجنابي وآخرين.
وفي عام 1976 استخدمت تقنية البث الملون، فبدأت مرحلة ثالثة من حركة الدراما التلفزيونية، وتعزز الكادر الإخراجي بالعديد من الاسماء، ومنهم عبدالهادي مبارك وقاسم حول وسمير الصائغ وطيف المدرس وجاسم شعن وفهمي القيسي وعادل طاهر وفهمي وطارق كرم، مع وفود مخرجين مصريين كبار امثال ابراهيم عبدالجليل وابراهيم الصحن، مع قائمة طويلة من كتاب الدراما المرموقين كيوسف العاني وخليل شوقي وطه سالم وعادل كاظم ومعاذ يوسف وصباح عطوان وعبدالوهاب الدايني ونورالدين فارس وعلي حسن البياتي وخليل الرفاعي، وغيرهم الكثير.
وكان قسم الانتاج الدرامي على مقربة من القسم الثقافي في دائرة الاذاعة والتلفزيون، وكان العاملون في القسم الاخير هم الخلاصة المقطرة من ادباء العراق وصفوة المثقفين المعروفين امثال محمد مبارك وفاضل ثامر واحمد خلف وياسين النصير وحسب الله يحيى وعبدالرزاق رشيد الناصري ومالك المطلبي وثامر مهدي وصادق الصائغ وسليم السامرائي ومنذر الجبوري وسعد البزاز وعبدالجبار عباس وزهير الدجيلي وآخرون. وكان من الطبيعي ان يتلاقح هذان القسمان بالعمل والنصح والمودة، فخرج من بين هؤلاء الاسماء كتاب مسلسلات درامية شهيرة كمالك المطلبي ومحمد مبارك وثامر مهدي، وان غلب عليها طابع السير التاريخية من دون ان تتناول الطابع الاجتماعي الراهن.
وكان من الطبيعي ان تتصدى اقلام نقدية محترمة لمواكبة الدراما التلفزيونية في العراق وان انطلقت من منطقة الادب اكثر مما عرفت بالاختصاص الدرامي الرسمي. ولكن هذه الانطلاقة كانت معززة بالحرص والضمير والوجدان لمسيرة درامية طويلة تجاوزت النصف قرن في عمر التلفزيون العراقي، ومن هذه الاقلام الراحل قاسم عبد الامير عجام وصادق الصائغ وناطق خلوصي، ويعد الاخير من أغزر وابرز النقاد العراقيين في هذا الميدان في الصحافة العراقية، وكانت حصيلته كتابين مهمين: "مقالات في النقد التلفزيوني" 1993 و "الدراما التلفزيونية العربية" 2000.
اعتراضات واختلاطات
من بداهة القول، ان الدراما العراقية ما زال أثرها عالقاً في الذاكرة، وان اعمالاً تلفزيونية كثيرة ذات مناحٍ اجتماعية وكوميدية وتاريخية وتراثية من الصعب نسيانها. بل أجزم ان الكثير من العراقيين يودون لو تكرر عرض البعض من مسلسلاتنا او تمثيلياتنا المتلفزة القديمة، ولو على سبيل استذكار الماضي في الاقل.
هل من أمثلة؟
اجل، فلدينا قائمة طويلة قد يكون من المفيد استعراض البعض من عناوينها:
"الدواسر، جرف الملح، المتمردون، تحت موس الحلاق، الاماني الضالة، ايام الاجازة" وغيرها.
والآن لنتطرق الى واقعها الراهن، خصوصاً في مستوى تذبذبها ثم انحسارها المريع منذ سقوط الديكتاتور في 2003 وحتى اليوم، على الرغم من وجود مستلزمات الانتاج من ستوديوهات وتقنيات وغيرها، إلا ان "شبكة الاعلام العراقي" التي تعد الجهة الاولى الراعية في دعم ومواصلة المسيرة الدرامية لأعمالنا التلفزيونية، هي في تقديري من وقفت حجر عثرة في طريق هذه المسيرة، بسبب هيكلية هذه الشبكة
ثم اجتهد المجتهدون من رؤساء وأمناء هذه الشبكة فكرسوا جهودهم في تهميش الانتاج الدرامي وغاب عن فطنتهم أهمية وعظمة الفن الدرامي في تاريخ الامم والشعوب والاوطان.