تعويذة رقمية، قيل أنها تشبه الارقام التي تكتب في تعاويذ السحرة والمشعوذين، وقيل أنها ليست أربع ثمانيات بل طلسم من طلاسم الزمن. لكن الجندي الايراني في ظهيرة ذلك اليوم، وقد كمن في زاويته التي يجلس فيها يوميا هو ومجموعة من القناصين الإيرانيين أمثاله، يكمنون بلا حراك، يتصيدون الجنود الغافلين، من ينسى ويخرج رأسه من خلف الساتر، من يسير دون أن تهمه بنادق القنص، من يركض سريعا متنقلا من موضع الى موضع، مكمنهم قريب من الجنود العراقيين.. ولهذا تمدد القناص الايراني "س" بلا حراك وهو ينظر الى المدى امامه عبر مرقاب البندقية |، المرقاب يشير الى حركة في المواضع العراقية، الحرارة والرطوبة جعلت حبات العرق تنساب بتدفق من رأسه، حيث الخوذة، وتسير مسرعة نحو الحاجبين الكثين. وقريبا من المرقاب تنحرف دفقة العرق وتصل الى فمه، مياه مالحة تصل الى شفتيه يمتصها ويبصقها بسرعة، ازدادت الحركة في المواضع العراقية!
في الجانب الآخر.. كانت المواضع هادئة، تواصل الهدوء حتى مابعد ظهيرة يوم 8/8/1988.. اشيع بين المواضع العراقية أن هناك بيانا مهما صادراً من القيادة العامة للقوات المسلحة.. وبدأت كالمعتاد الاناشيد.. انشودة تعقبها انشودة.. كان الجندي جفات، اكثر المنتظرين للبيان فيما انشغل باقي اصدقائه في الموضع المقابل للإيرانيين بلعبة الدومينو.. لم يشترك معهم كالمعتاد، لكنه أكد لهم ان هذا البيان سيكون له شأن!
ضحك احدهم ضحكة قوية، ظنها الجندي جفات انها تعنيه، ولم يكن يعلم انها من اجل "الدوشيش" الذي مات بيد احدهم.. فزعل.. اقترب من فتحة الملجأ..طالع المواضع الايرانية.. كان الهدوء، يشبه سجادة مخترقة بشمس مابعد الظهيرة حتى أن مواضع القناصة التي يعرف انها تقابلهم، كانت ساكنة.أطل برأسه بتحد من خلف الساتر.. لم يسمع شيء ولم يشعر بالطلقة التي اخترقت جبهته ولا بتدفق الدم.. ساد الصراخ.. وبدأت اللعنات على البيانات والحرب والجبهة والملح والدومينو.. امسك الجميع اسلحتهم وبدأت زخات الرصاص تمطر الساتر الايراني بعنف وهمجية وقسوة.. اخترقت رصاصة التراب وغاصت عميقا في قلب الجندي الايراني "س" القناص الذي شاهد رأس جفات يظهر من خلف الموضع واطلق رصاصة وحيدة نحوه.
ــ مات جفات...
اخبر اصدقاء "جفات" الضابط الذي بدوره عبر الموقف إلى آمر السرية الذي عبر الموقف إلى آمر الفوج وآمر اللواء.. الذي بدوره عبر الموقف النهائي الى الفرقة...
حينما اعلن المذيع "مقداد مراد" انه سيقرأ بعد قليل بيانامهما صادراعن القيادة العامة للقوات المسلحة.. شد اصدقاء جفات جسده في بطانية وحملوه الى المواضع الخلفية حيث السيارات الذاهبة والآتية من الجبهة إلى مقر اللواء.. اقترب الجنود الأربعة وهم يحملون جثمانهمن "الحانوت" رفع عريف الحانوتمؤشر الصوت في التلفزيون.. ومن فتحة المبنى الصغير للحانوت، اطل المذيع واعلن الكلمة الاولى: بيان البيانات.... لم يفهم الجنود اول الامر ماذا يعني بيان البيانات.. حينما وصلوا الى سيارة الاسعاف.. انهى المذيع قراءة البيان... وكتب الضابط في دفتر مذكراته بعد أن وقّع موقف الوحدة حتى ساعة قراءة البيان:"الجندي جفات عبد الحسين" آخر جندي يلاقي حتفه قبل أن يتم ايقاف اطلاق النار قبل عشر دقائق.
جفات عبد الحسين آخر ضحايا حرب السنواتالثمانية.. ومن يومها كلما سيحتفل الشعب بتاريخ الأربع ثمانيات سيتذكر اولاد الجندي "جفات"، تاريخ رحيل الاب الذي قتل قبل عشرة دقائق من انتهاء الحرب.. وكذلك القناص الايراني "س" الذي قتل بالتوقيت ذاته مع فارق بضعة دقائق هي الفاصلة من انطلاق رصاصته نحو رأس "جفات" والرصاصات التي انطلقت من جنود الموضع المتقدم نحو ساتر الايرانيين حيث الرصاصة التي اخترقت قلب الايراني "س".

عرض مقالات: