ظلَّ مرض طفولتي غامضا. مرض لعين، لم تفهم منه أمي، غير أعراض البكاء والتقيؤ وعدم الميل الى الرضاعة. كان سبب كل هذه الأعراض بحسب أمي هو السحر!
أبي كان جادا في تحذيره أمي: "إياك أن تقتليه بخلطاتك ومضغاتك السامَّة"، فتردُّ أمي عاتبة: الآن صارت سامَّة! تعافى بها الكثير من النساء والأطفال. عالجتُ بها الطفل "الممتون"، و"الصرّة المشلوعة"، و"شكاية العين"، و"التركوه المخلوعه"، و"الجاهل المْتَنِّك". هل نسيت؟".. لم أنس يا امرأة، ولكن مرضه هذا لا يُعالج "بحوايج سيد جليل"!
شرعت أمي بإخضاعي الى تجاربها الطبية الغريبة.. تحرق فصوص بخور "جاوي"، وأوراق الحرمل، لتبخِّر به الغرفة، ثم تمزج "الزعتر والحندكوك وحَبة سوده" بقليل من الماء الساخن وتزقني صباحا ومساء بثلاث قطرات منه، في آخر الليل، تقوم بخلط "النوّام وورد أزرك" بماء "العنبر وماء الورد" وتسقيني منه، لكن كل ذلك جعلني أكثر سوء، فقد امتقع وجهي، وهزلت، وفقدت الكثير من نظارة وجهي!
في صبيحة اليوم التالي، أودعتني عند جارتنا العجوز "أم غايب"، وذهبت الى أبي الخصيب، توغلت في البساتين التي لا تنفذ اليها أشعة الشمس من وفرة غابات نخيلها، عبرت الجسور الخشبية والقناطر وبيوت الطين والصرائف والأكواخ، واجتازت الكثير من القرى والأنهر وهي تتجه صوب قرية "السبيلات"، بحثا عن "ماء حِبْ، شرب منه خنزير! تلك كانت آخر فتوى تلقتها من امرأة عجوز عارفة، فأقدمت على الأخذ بها مبكرا.
أصغت الفلاحة، صاحبة "ماء الخنزير" لحديث أمي، ثم منحتها قليلا من ذلك الماء، ونصحتها بتغيير لفافات القماش التي تقمطني بها، واستبدال فراش المهد بفراش جديد.
عادت والدتي فرحة بمغنمها. شكرت جارتنا "أم غايب" على رعايتها لي طيلة نصف نهار، ثم حملتني الى البيت، وسقتني من ماء الخنزير، ثم قمطتني بقماشة نظيفة، وصنعت لي فراشا جديدا في "كاروك الجريد"، وحالما وضعتني في المهد نمت نوما عميقا!
في صبيحة اليوم الثاني، شاهدني أبي ففرح وهو يرى خديَّ وقد عادت إليهما الحُمرة بعد إبطال مفعول "السِحر"! كما ازدادت فرحته أكثر حين عرف أنني بدأت أرضع الحليب بتلذذ وأنام، وقتها قال لـأمي: لم أكن أعلم أن للخنزير فائدة كبيرة كهذه.
قبل وفاة الوالدة بأعوام قليلة، اعترفت لي ضاحكة، حين استذكرت مرض الطفولة القديم. قالت وهي تخفي وجهها بفوطتها: "لا ماء الخنزير ولا بطيخ. عثرت على "عظم الريس" في فراشك! وكان هو السبب في كل ذلك"!