"يوماً بعد يوم نزداد، نحن طلاب المعرفة والباحثين عنها، قناعة بأهمية النقد باعتباره حواراً يبلور رؤية أخرى للعالم، ويؤهل الوعي لاستقبال التنوع والاختلاف، مزوداً، بذلك، ثقافة الانسان بما يثريها ويمدّها بالحياة".

يمنى العيد

رافق النقد - كتابة عن الكتابة - العملية الابداعية منذ نشأتها الأولى حتى الآن، مهما كان نوع هذه المرافقة، ان كانت من نوع التقييم والتقويم وقريباً من منشئه، كما في النقد القديم حتى سبعينيات القرن الماضي. أو من نوع دراسة وتحليل واستكشاف واستبطان النص الابداعي بعيداً عن منشئه، كما في النقد الحديث، النقد النصي.
وقد بدأ طرح السؤال عن مشروعية النقد أو عدم مشروعيته في الفترة الأخيرة. إذ لم يثر هذا السؤال إلا في الأعوام الأخيرة، لأن مشروعية النقد قد بدأت تتشكل وتتكون منذ التاريخ القديم لإنتاجنا الأدبي "الشعري خاصة".
والسؤال الذي يثار الآن بعد أن ادعى الكثير من المبدعين أنهم لا يحتاجون النقد- إذ وجهوا إصبع الاتهام له هو: هل حقيقة أن النقد هو حلقة زائدة ولا حاجة اليها بعد إنجاز العملية الابداعية لنص ما، مهما كان تجنيسه؟ أم ان هذا خطأ في التصور والرؤية وفي الواقع أيضاً، لأننا ما زلنا نحتاج النقد إما لتقويم وتقييم العملية الابداعية في أي نوع وجنس كان، أو لتسليط الضوء عليها وتحليلها من الداخل، و توضيح علاقة النص المنتَج في هذه العملية الابداعية بالنصوص الخارجة عنه، وتبيان العلاقات الداخلية بين مكوناته وعناصره؟
في تاريخنا النقدي العربي الكثير من ما يؤشر للنوع الأول من النقد. إذ لو أخذنا منهج "الموازنة" بين الشعراء، كما وضعه النقد القديم، الآمدي مثلاً، فإننا نجد الكاتب وهو ينظر الى شاعرين من خلال هذا المنهج، فيؤكد بأن الشاعر "س" لم يكن موفقاً في استخدامه اللفظ "كذا" في بيته الشعري، كما وفق الشاعر "ص" وأجاد، والعكس صحيح.
ومثال آخر هو الذي حصل في قبة النابغة الذبياني "الحمراء" في سوق عكاظ، والمفاضلة بين الشاعرين حسان بن ثابت والخنساء وما قدماه من شعر.
ان كل هذه النقود تعتمد على أفضلية لفظ على آخر حسب تصور الناقد "الموازن والمفاضل" للعمل المدروس، وكان كله شعراً حتى قدوم القرن العشرين عندنا في العراق على أقل تقدير.
ولو اقتربنا أكثر الى عصرنا الحديث حيث كتب د. زكي مبارك دراسات كتابه "الموازنة بين الشعراء" بين عامي 1925 وعام 1936، ودرس الموازنة بين شعر مطران خليل واسماعيل صبري لرأيناه قد بيّن "الموازنة" في المعنى وكذلك الوصف، وليس اللفظ الذي اعتمدت عليه الموازنات القديمة.
في هذين المثالين تعرفنا على أن النقد منذ ذلك الزمان يقف موقفاً مقوّماً ومقيّماً، وفي ذلك يكون خطأ التصور منذ البداية، لأن الشاعر – على سبيل المثال - عندما استخدم هذا اللفظ فإنه أراد أن يعطي معنى غير المعنى الذي رغب به الناقد، أو تصور انه قد وصل الى ما أراده الشاعر من غاية ومقصد، وان اعتمادهم على اللفظ خاصة دفع – أو هو من الأسباب التي دعت - الجاحظ ومن ورائه الجرجاني الى وضع نظرية النظم في النقد القديم. وما زالت مقولة الجاحظ الشهيرة: "ان المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، انما الشأن في اقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" تفعل فعلها في ذلك النقد، وهي مبنية أساساً على ما سبقها من نقود.
***
كان الدكتور علي جواد الطاهر، على سبيل المثال، وهو ناقد انطباعي، ومقوّماً ومقيّماً عند نقده. إذ كان في أغلب دراساته النقدية يصوّب – كما كان يرى في ذلك – العملية الإبداعية للكاتب من خلال مفردة هنا أو هناك، أو فكرة هنا أو هناك.
هذه الامثلة التي أوردناها عن عملية النقد التي صاحبت العمل الإبداعي المنقود هي العملية التي لا يرغب فيها المبدعون – و لا أقصد أنصاف المبدعين أو الذين يكتبون بلا إبداع لأنهم فارغون من أي إبداع، لأنهم يجدون في مثل هذا العمل تحديداً لمساحات ابداعهم التي لا تحد بحدود، أو توضع في قالبٍ معين.
وكما كان المبدع يكتب لوحدهِ إلا من مشاركة تابعه "الجّني" القادم من وادي عبقر، إذ يوحي له ما يكتب – حسب تصور نقادنا القدامى للعملية الابداعية سابقاً والى بداية القرن العشرين، على أنها وحيٌ وإلهام، أو كما يقول ت. س. أليوت عن الكتابة الإبداعية "هي الفعل الاجتماعي لإنسان في عزلة". فهو عندما ينتهي من عمله يأخذ بترديد المقولة الجاهزة على لسان البعض التي تؤكد "أنه غير معني بالنقد"، لأنه عندما كان في حالة إبداع هو وتابعه فإنه كان يقوم بما يقوم به المبدع القديم، فيحذف لفظة من هنا أو هناك، و يزيد في المعنى أو ينقص، ويلغى مقطع أو يزيد، فهو هنا أخذ ثلاثة أدوارٍ في آن واحد، فهو كاتبٌ وناقدٌ ومتلقٍ، كشعراء النابغة الذبياني والآمدي، لهذا نراه قد اكتفى عن/ من النقد والناقد، الا أنه نسي أو تناسى أن ما أنتجته عمليته الإبداعية سيشاع بين الناس عند نشره فيكون المتلقي هو المسؤول عنه وليس هو.
***
أما الأسلوب الثاني من أساليب العملية النقدية فهو أسلوب الفحص والتحليل واستكشاف واستبطان النص من الداخل. والذي جاءت به الشِكلانية الروسية "ظهرت ما بين عامي 1915 و1930م" في نظرتها للعمل الإبداعي مهما كان نوعه، وامتدّت الى أن وصلت الى البنيوية، وما بعد البنيوية. و المبدع غير معني أساساً بهذا النقد – كما يرى بعضهم- بقدر عناية المتلقي به في إضاءة هذا العمل الإبداعي أو ذاك الذي يطالعه.
لقد وَثَق الناقد الحديث علاقته بالنص أكثر من علاقته بمنتجه، أو بما يحمل من أفكار أيدولوجية واجتماعية، أو أي مستوى آخر. ووجد طريقه الى داخل النص. أي انه راح يستكشف ويستبطن النص من الداخل.
وكثيراً ما أجاب المبدع في مقابلة له، مكتوبة أو مذاعة أو متلفزة، عن سؤالٍ حول تأثير النقد على إنتاجه، بجواب جاهز وهو: "لم يؤثر النقد في ما كتبته أو أكتبه". وهذه السطور ترى العبارة هذه هي جواب جاهز وساذج، وادعاء كاذب. لأن المبدع كان قريباً جداً من قراءة هذا النقد الذي كُتب عن نتاجه، وحتماً عَلَق في ذاكرته ما طرح فيه من أفكار مقوّمة أو مقيّمة، أو محللة ودارسة ومستكشفة للنص.
مثل هذا العمل يحتاجه المبدع والمتلقي على السواء. فالمبدع بحاجة لمثل هذا النوع من النقد ليقف على حقيقة العملية الإبداعية التي يقوم بها من الناحية الكمية والنوعية. لأن نقده نفسه بنفسه لا يمكنه أن يعطيه معرفة الكمية التي صبّ فيها إبداعه، فيكون هذا المَنْتَج ما هو إلا "إسهال" للألفاظ والكلمات والجمل والمقاطع والفصول. هذا من ناحية الكم، أما من ناحية النوع فإن الكَم يؤثر سلباً أو إيجاباً في الكثير من الأحيان في النوع.
صحيح أن النص له مُنتج، ولمًنتجه عالمه الخاص، وحتما انه سينتقل، شِئنا أم أبينا، الى داخل النص، إلّا أن هذا العالم ستنقطع كل العلائق التي كانت تربطه بمنتجه، وتتحول عند قراءته من الآخرين اليهم، فيكون هذا العالم هو عالم القارئ، المتلقي. وبهذا فإن تخوف البعض من وقوع النص في عزلة تامة، هو تخوف لا محل له في هذا الجانب، لأنه سينقل معه كل علاقات مُنتجه المبدع الى القارئ الذي سيكون فعل القراءة من أفعال الكتابة المبدعة.
إذن، ولما كانت القراءة - حسب ما يعدّها البعض - فعل من أفعال الكتابة، بل إنها الجوهر الأساسي للعملية الابداعية. فالنقد والحالة هذه يبقى حاملاً لافتة مشروعيته أمام البعض الذي هو مكتفٍ بإبداعه فقط. وعندها لم يعد الناقد مثل الكائن الطفيلي الذي يعيش على غيره.
فإذا كان النص الإبداعي يتصف بأدبيته المحض، فإن النص النقدي يتصف بأدبيته وعِلْميّته مع قليل من الصرامة والدقة.
و إذا استخدمنا المعادلة الرياضية وحذفنا كلمة "أدبية" من كلا الطرفين، فيبقى عند ذاك فقط كلمة "العِلْميّة". وبهذا يبقى النقد متصفاً بالعلمية التي يخشاها الكثير من المبدعين. لهذا قال أبو حيان التوحيدي "إن الكلام على الكلام صعب".
صحيح أن البعض يسمى نقدنا الحديث بالنقد "الوصفي"، لكننا لا ننسى ما يحمله من "معيارية" بين ثناياه.
وفوق هذا وذاك يبقى النص هو الذي يستدعي منهجه النقدي، إن كان قديماً أو حديثاً، تقويم وتقييم. أي ماذا يقول النص. أو فحص ودراسة واستبطان النص من الداخل، أي بكيفية قول النص. أو بالجمع بين الاثنين معاُ، لا لتكون النظرة النقدية تلفيقاً، وإنما استجابة لروحية النص نفسه.
إن النقد القديم مَثَلَه مَثل من يهتم بالبيت، إعداد العائلة، وهل لهم أطفال أم لا؟ وبالعلاقات بينهم، وهكذا. فيما النقد الحديث يهتم بالدار. من كم غرفة، ووظيفة أي فضاء فيه، وهل هو مسور أم لا، وهكذا.
ان هذه السطور قد كُتبت وهي لا تنسى أن كاتبها يعتقد جازماً أن كل مُنْتَج، مهما كان مصدره، من العملية الابداعية الأولى، عندما ينتشر و يشاع بين الناس يصبح لا أبٌ له و لا أم، أي يموت مؤلفه.

عرض مقالات: